مقال : صراع النفوذ بين فرنسا وروسيا على الواجهة
بقلم: دافيد ريش
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
تنظر فرنسا بعين الريبة إلى المناقشات الجارية حول نَشْر القوات شِبْه العسكرية الروسية في مالي؛ باعتبارها انتعاشًا لحنين التعاون الثنائي الوطيد بين دولة مالي وموسكو في العقود المنصرمة، وهو الشيء الذي يُوتِّر أعصاب فرنسا بشكل كبير.
والتوتُّر الفرنسي المعني تضمنّه التصريح القائل بـ”استحالة الانسجام” بين الوجود الروسي إلى جانب القوات الفرنسية على المشهد؛ بحسب ما ورد في ردّ فعل غاضب أدلى به وزير الخارجية جان إيف لودريان، الأربعاء 15 سبتمبر، إزاء إمكانية إبرام اتفاق بين مالي ومجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية لنشر المرتزقة في البلاد.
وِفقًا لرويترز، يوشك توقيع عقد بين الميليشيات المقربة من فلاديمير بوتين والمجلس العسكري المالي لنشر عدة مئات من الأفراد الروس المسؤولين عن تدريب الجنود الماليين وضمان حماية بعض كبار القادة.
والتقارب المحتمل بين روسيا ومالي يرجع بنا إلى التعاون الأمني والاقتصادي الوثيق الذي نشأ بين البلدين خلال فترة الاتحاد السوفييتي, وهو موضوع حساس لباريس وموسكو يجدّد التوترات التاريخية.
الاتحاد السوفييتي: حلم قديم لمالي
يُذكر أن أكثر من أربعين رئيس دولة إفريقية عقدوا اجتماعًا يوم 23 أكتوبر 2019، في سوتشي في إطار القمة الروسية الإفريقية؛ وهو الحدث التاريخي الذي أبدى فيه فلاديمير بوتين رغبته في إضفاء الطابع الرسمي على إعادة مشاركة روسيا في القارة السمراء.
وفي خضم ذلك أراد إبراهيم بوبكر كيتا، رئيس مالي المخلوع والمشارك في القمة حينذاك، استعطاف الجانب الروسي بالقول: “نحن بحاجة إلى ترجمة هذه الصداقة في الحرب ضد الإرهاب في المنطقة؛ الميدان الذي يشهد الجميع أنك بطلٌ فيه. وخاصةً بعد تصريح فخامتك شخصيًّا بتأهيلك في المجال المعني. نحن في أمسِّ الحاجة إلى قدراتك في هذا المجال يا سيادة الرئيس بوتين”؛ على حد تعبيره.
ويأتي ذلك في وقتٍ تعاني فيه دولة مالي، منذ عام 2012م، من معركة طويلة النفس ضد الإرهابيين وأدّت إلى تدهور الوضع الأمني في البلاد لعدة سنوات على الرغم من عملية برخان الدولية لمكافحة الإرهاب بقيادة فرنسا في منطقة الساحل. لكنَّ الأعلام الروسية تظل أحد أبرز مظاهر الاحتجاجات المناهضة، التي تُنظّم من حين لآخر، ضد الوجود الفرنسي وتطالب برحيلها.
ومن جانبه، أشار نياجالي باجايوكو، دكتوراه في العلوم السياسية ومتخصص في القضايا الأمنية في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، إلى انتعاش “حنين مالي قديم في الوقت الراهن بين صفوف ما يسمى بالتيارات الوطنية التي تروّج لضرورة الانفصال عن فرنسا والتعاون مع موسكو”، مضيفًا أنَّ “هذه الرغبة تستمد جذورها من خلفية رؤية التعاون الذي أقامه الرئيس موديبو كيتا مع الاتحاد السوفييتي والكتلة السوفيتية، ولا سيما على المستوى العسكري، وحافظ عليه خلَفه موسى تراوري. وهو الشيء الذي تنزعج منه فرنسا وتدندن أن الجانب الروسي يرغب في استبدالها”؛ على حد قوله.
علمًا بأن الكتلة السوفييتية شرعت في استراتيجية عقد التحالفات في القارة في أوائل الستينيات، والتي كانت بمثابة نهاية الحقبة الاستعمارية لمعظم البلدان الإفريقية، ووجدت في شخص الاشتراكي موديبو كيتا، أول رئيسٍ لدولة مالي، حليفًا مثاليًّا؛ فضلاً عن أن الأخير كان يرغب في الانفصال عن القوة الاستعمارية السابقة.
وأعقب ذلك استئناف الاتحاد السوفييتي البحث عن الموارد المعدنية، التي كانت تديرها فرنسا آن ذاك، مقابل تقديم المعدات العسكرية والتدريب للبلاد، لكنَّ “المصالح الاقتصادية للاتحاد السوفييتي في القارة كانت ضئيلة باعتبار حيازتها أراضي شاسعة ومكتظة بالموارد؛ فكانت تهدف استثماراته، بالمقام الأول، إلى استخدام إفريقيا كمسرح نفوذ في سياق الحرب الباردة مع الغرب”؛ حسب تحليلات أناستاسيا شابوتشكينا، المحاضرة في الجغرافيا السياسية في كلية العلوم السياسية، والمتخصصة في الشؤون الروسية.
ولا تزال هذه الاستثمارات الضخمة، في مالي كما في بقية المنطقة، دون التطلعات المنشودة بالنسبة للسوفييت، إلى جانب تجاربها الأخرى التي لم يُحالفها حظ النجاح الباهر في إفريقيا.
تفعيل التعاون الروسي:
كرّست روسيا جهودها على نفسها بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي في عام 1991م، ثم بدأ التركيز، في العقد اللاحق، على مجال نفوذها من مكتسبات دول الكتلة السوفييتية السابقة. لكن باماكو بذلت قصارى جهدها في سبيل تفعيل تحالف عسكري بشكل تدريجي مع موسكو اعتبارًا من عام 2012م، وهي الفترة التي دخلت فيها دولة مالي في حرب بلا هوادة ضد المسلحين الذين سيطروا على الشمال.