Articles

مقال: وفاة العلامة محمود محمد شاكر وإنكسار القلم السيٌال

د.محمد موسى كامارا

وأنا جنديٌّ من جنود هذه العربيّة، لو عرفتُ أنّي سأحمل سيفًا أو سلاحًا أمضى من هذا القلم، لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين).
في السّاعة الخامسة من عصر مثل هذا اليوم، عام 1418هـ/1997م، ترجَّل الفارس الباسل، وسكت الصّوت المجلجل، واستراح الجنديّ المحارب، وتوقّف الشّلّال الهادر، وتهدّم البنيان الشّامخ، وانكسر القلم السّيّال انكسارة الأبد؛ بوفاة أستاذ المحقّقين، وشيخ العربيَّة، العلّامة الجليل أبي فهر محمود محمّد شاكر، فانعقدت الألسنة، وهمعت العبرات، وحزن المجالس والمؤانس، وكاد يُسمع للمخطوطات العربيّة نشيجٌ حزينٌ باكٍ على رحيل جُذَيْلِهَا الْمُحَكَّك، وَعُذَيْقِها المُرجَّبِ.
وقد أفضى محمود شاكر إلى ربّه؛ وهو الشّاعر الماهر الذي أجاد فنَّه، والفارس الجسور المنافح عن أمَّته بالقلم، والمحقّق الخاطف للتّراث من يد الفناء إلى حومة البقاء، والنّاقد الفريد المستولي من صنعته على الأمد، والكاتب الأديب الذي حرس العربيّة، وذاد عن حماها، وخبِر تاريخها، ودرس رجالَها، ولم يصدر فيما صنع إلّا عن همٍّ واحدٍ لا يخالطه شيءٌ، هو الهمُّ بأمم الإسلام في ديارها المتنائية، وبلادها المتباعدة.
ولا يذهبنّ بك الظنُّ ساعةً إلى أنّنا نغلو في وصف العلّامة أبي فهر، ونفرط في الرّفع من قدره، ونتجاوز الحقّ في الإعلاء من أمره؛ فقد شهدَ له بأكثر ممّا أسلفنا في الدّلالة، رجالٌ لا مغمز في غزارة علمهم، ولا مطعن في علوّ كعبهم؛ فهذا النّاقد الشّهير، والمحقّق الكبير إحسان عبّاس، يقول: “لقد تعلّمت من محمود، وعرفت من علمه الغزير أضعاف ما قرأته وسمعته قبل لقائه، وكان لقائي به فاتحة عهدٍ جديدٍ في حياتي العلميّة، والميزة الكبرى فيه أنّه ذو رأيٍ عميقٍ، واطّلاعٍ واسعٍ، وليس هناك من هو أقدر منه على فضح التّفسيرات التي تزيّف التّاريخ والحقائق”.
ويقول أحد روّاد النّهضة الفكريّة الإسلاميّة، المفكّر الجزائريّ مالك بن نبيّ: (لو وُجد الجاحظ الآن، لترك مكانه عن طيب خاطر لمحمود محمّد شاكر).
ويقول شيخ النّقّاد الإسلاميّين محمّد مصطفى هدّارة: (قدرة محمود شاكر على الوصول إلى ضوالّ الشّعر أعلى من كلّ قدرةٍ عرفناها في جيله وجيلنا، ومن تلانا”.
ويقول الكاتب المفكّر الوزير جابر عصفور: (محمود محمّد شاكر هو أعظم المحقّقين في القرن العشرين، وأعماله هي الأكثر حجّةً في مجال تحقيق التّراث).
أمّا تلميذه العلّامة محمود الطّناحيّ، الذي خبر بياض أبي فهر وسواده، فهو يقول، بعد أن ذكر وجوهًا من عقله وعبقريّته ولسانه وجَلده: “بل إنّي رأيتُ أن ليس بينه وبين الجاحظ أحدٌ في الكتابة والبيان”.
ولولا حزن الفقد المتجدّد، لاستكثرنا من نظائر هذه الشّهادات الجليلة التي تقطع السّبيل أمام ظنّ الغلوّ والإفراط في تقدير أبي فهر، والإشادة بمكانته، فرحمه الله، وجزاه عمّا قدّم لأمّته ودينه الجزاء الأوفى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى