actualite

تأملات في حالة اللغات الأصلية للأقليات المسلمة في روسيا

الاستاذ / إشمورات أبو أحمد خيبولين

داهمتني الفكرة في كتابة هذه المقالة اليوم لأن القضية شغلت بالي خلال سنوات كثيرة فكأنما جاءها المخاض هذه الساعة. لماذا الموضوع في اللغات بحد ذاتها؟ أليست هناك قضايا أخرى تستحق اهتمامنا؟ ألا يقول كثير من المحققين والمحللين والباحثين في الحضارات والمجتمعات إن كيان الأقليات المسلمة تعتمد علي دينهم وثقافاتهم وعاداتهم وما إلى ذلك؟ بلى، لا نهمِّش دور الدين ومميزاتنا التي تجعلنا شعوبا وقوميات مسلمة في المجتمع الروسي بيد أن اللغة – كما يُعلم بالضرورة – هي علامة مهمة لأي شعب يريد أن يحافظ على كيانه.
نعم، بضياع لغة القوم يبدأ ضموره واندثاره ليندمج في قوم أكبر وأقوى. وكم شهد التاريخ أقواما سلكوا هذا المسلك فطُويَ كتاب أعمالهم. لأن اللغة ليست آلة التواصل والتخاطب فحسب بل منهلٌ يعطي حياةً لحامليه وقلبٌ ينبض بوصايا الآباء. قد يقول قائل إنه لم ينقطع عن هذه الوصايا والقيم ولكن الأمر أخطر مما يظن… إذا لم تكن اللغة التي نستخدمها أمرا هاماً جداً فما الذي جعل أمَماً أقوياء يهتمون بنشر لغاتهم هذا الاهتمام؟ إنَّ ديننا يعلِّمنا أن كل ما نتلفظ به يُحدث فينا تغيّرا قد لا نراه أو نفهمه. الحديث: “إذا أصبح ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تكفِّر اللسانَ، فتقول : اتقِ اللهَ فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمْنا وإنِ اعوججتَ اعوججنا (صحيح أخرجه الترمذي).
للأسف الشديد لم نشاهد الإقبالَ المتوقَّع على اللغة العربية بالنهضة الإسلامية في روسيا التي بدأت من أوائل التسعينات من القرن المنصرم. نعم، كثُر عدد المصلين وعُمرت وامتلأت المساجد ولكنَّ الكثيرين منا اكتفَوا بأساسيات اللغة العربية – كقصار السور والأذكار المشهورة اللازمة في الصلوات والعبادات الأخرى. من جهة أخرى نرى فقدان لغات للأقليات المسلمة واتخاذَ هذه الشعوب اللغةَ الروسية لغتَها الأصلية. إذا كانت هذه الظاهرة مشكلةً – وأنا أعتقد بأنها مشكلة – لجزءٍ من المسلمين (كالتتار والباشقورد مثلا) قبل 20-30 سنة ففي السنوات الأخيرة عمت هذه البلوي حتى شعوب القوقاز.
بضياع اللغة تُهجر الكتب والرسائل والمقالات والأشعار والأغاني (الحديث لا يدور حول الأنغام بل في الكلمات التي تصف أحوال الناس الذين عاشوا حينذاك) والأساطير الشعبية وكنز عظيم في وصف الأزمان الغابرة التي تمتد جذورها إلى عمق التأريخ… يتحدث ذلك التراث من وراء العصور كيف عاش أجدادنا وما أهمَّهم وأفرحهم وأحزنهم… اللغة الأصلية التي كان يستخدمها المسلم الروسي (أقصد روسيَّ جنسيةً لا عرقاً) كانت حاجزا بينه وبين الروس النصارى على مر العصور. أما اليوم فلا تجد أو تكاد لا تجد فرقا بين روسي مسلم وروسي نصراني أو ملحد. كثير من الأجيال الحديثة جاؤوا بفكرة غريبة وهي منتشرة بين الشباب – أنه “لا قوميةَ ولا قبلية في الإسلام”. من المعلوم أن الإسلام لم يُلغِ نظام الشعوب والقبائل وحتى لم يضع أساسا لاختفائه. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات 13).
فهذه الفكرة على كونها صحيحة لأول وهلة سطحية قد تؤدِّي في النهاية إلى التَرَوُّسِ التام – إن لم يكن في هذا الجيل ففي الجيل القادم. في الحقيقة تعمل بعض المنظمات بصورة خفية على التروس التدريجي للقوميات المسلمة…

ما الحل إذن؟ يبدو لي أن على الشعوب المسلمة في روسيا أن تضع نصب أعينها حفظ تلك اللغات التي ما زالت حية، وإن كان عدد مستخدميها يتضاءل من سنة إلى سنة. نتذكر مقالة سنة 2009 التي صدرت في موقع https://www.kavkaz-uzel.eu/articles/150042/ أن 25 لغة في القوقاز قد تختفي نهائيا في المستقبل القريب. طبعا من الصعب أن نتوقع أن الجهود التي تبذل وسوف تبذل تُحدث تغيرات سريعة في وضع كثير من اللغات. لا سيما في يومنا هذا إذ تنتهي الدراسة والتدريس بلغات غير الروسية في الثانويات والجامعات. من الجدير بالذكر أني شخصيا عاصرت وقتا كانت تدرس فيه بعض المواد (حتى الكيمياء والفيزياء!) باللغة الأم. نعم، لا يتصوَّر أحد البتةَ أن لغةً من لغات الشعوب المسلمة ستدخل مجالات مختلفةً كالسياسة وتشعباتها والاقتصاد والمصطلحات العسكرية والطبية ولكن يمكن أن يتفق أبناء الشعب أن يستخدموا لغتهم في بقية الأمور وهي ليست قليلة: الخُطب الدينية والتخاطب اليومي ودراسة التراث الأدبي الشعبي وحفظ الأشعار والأغاني وما إلى ذلك. وليس من المستحيل عملية تجديد اللغة – أن يجتهد علماء اللغة في وضع مفردات جديدة. ألم يأت العرب بكلمات جديدة مشتقة من العربية الأصيلة؟ هي “هاتف” و”حاسوب” و”عداد” و”دبابة” و”طائرة” و”محمول” و”سيارة” و”دراجة” و”سماعة” … أرى أنه من الأفضل للقوميات المسلمة أن “تستعير” هذه المفردات من العربية لأنها وإن بدت صغيرةً تقرِّب لغاتنا إلى لغة القرآن. أما توسيع مجال اللغة – إن ثبتت ونَجَتْ من الانقراض – فأمْرٌ يمكن تقويته بمرور الزمان. بهذه المناسبة يمكن ضرب مثال من تاريخ اللغة العبرية. إنها بدأت حياتها الحديثة من رجل واحد يدعى “إليعيزر بن يهودا” (1858-1922). (أوصيكم بأن تقرؤوا سيرته). كانت العبرية في زمانه لغة لا صلة لها بالأمور الدنيوية وكانت تستخدم في كتب الدين لا غير. الرجل المذكور أخرج هذه اللغة من العدم إلى مستوى الحوار وجعل ابنه أوَّل شخص يتكلم بها. يُحكى أنه بحث عن مفرداتٍ مناسبة لتسمية الأشياء بها – حتي استخدم “مقلاع” داود (عليه السلام) للإطلاق على “مسدَّس”… هكذا وضع عدة مجلداتٍ من القاموس للغة التي لم يكن لها أيُّ أملٍ…
لا شك أن كثيرا من اللغات المسلمة في روسيا لها أُسُس أقوى من تلك الأسس التي كات للعبرية وقت “إليعيزر بن يهودا” فلنجتهد لأجل لغاتنا وكياننا ومستقبلنا. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة 105).

كاتب ومترجم/ جمهورية باشقوردستان/روسيا الاتحادية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى