actualite

الشيخ الحاج : أحمد الصغير لوح رمز الإرادة والإدارة

د.أحمد مختار لوح

كثير هم المبد عون الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ، فمنهم من دخله بالشيء اليسير الذي قدمه للإنسانية من اكتشاف علمي أو خدمة عملية أنقذت موقفا أوأوقفت جائحا.. ومنهم من دخله بتذويب ذاته ونفسه إيمانا منه بأن حركة التاريخ تندفع نحو الأمام متى تصدى لها رجال صدقوا ماعاهدو الله عليه، وأكدوا للعالم من حوله استعدادهم للتضحية من أجل الآخرين ، وأظنني صادقا مع النفس إذا صنفت صاحبنا اليوم ضمن هذا الصنف الأخير من الذين أوقفوا حياتهم من أجل الآخر فهو بهذا إطفائي للحريق من الطراز الرفيع يهمه أن ينقض على موضع اللهب ويقضي عليه قضاء مبرما قبل أن يستفحل ويتطاير الشرر، وليس معنيا بالتجاذبات الشكلية والجدليات التافهة والمحاكمات القسرية المسبقة عن دواعي الحريق ومسبباته …
مولانا الشيخ أحمد الصغير لوح رحمة الله عليه ، اجتمعت فيه ملامح الأئمة المهديين الذين يهدون بأمر الله مستأنسين بقاعدتي الصبر واليقين ، وصفات السالكين الربانيين الذين وظفوا مقامات التصوف الصافي ومدارجه لتقديم أروع أنموذج في التربية والتوعية ، وخصائص المبدعين الذين عجموا سنن الله في الأنفس وفي الآفاق ، ووعوا على بصيرة إكراهات الواقع والمحيط وما تفرزه من مثبطات الهممم وتصنعه من مركب النقص والتبعية الذي يصور للإنسان أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان … هذه المعطيات كما نوعا هي التي أهلت شيخنا وجعلت منه معادلة صعبة في التاريخ لا تجارى وقمة في الإنجاز لا تبارى . وهي إنجازات لم تتحقق جزافا، بل انبنت على مقومات ودعائم أصيلة تتمثل في الآتي :
أولا: التأصيل العلمي الرصين : نشأ شيخنا في وسط اجتماعي رفيع ونبيل ، فلا يعرف في السلسلة الطويلة من أصوله من لم يحفظ القرآن الكريم تلاوة ورسما ، ولم يتصد للإقراء والإرشاد حفاظا على ما عرفوا به منذ قرون تمتد إلى أيام المرابطين في القرن الخامس الهجري . وبالرغم من فقده المبكر لوالده؛ إلا أنه لم يعش معاناة اليتم والحرمان فقد عوضه الله بما فيه خير وأمن وراحة ؛ إذ كانت والدته التي تمثل أنموذجا في العفة والطهر والنقاء والأصل الطيب، تحكي له منذ طفولته المبكرة قصص الصالحين وتجارب الناجحين وتلهمه قيم الرشد والانضباط والهمة العالية في التحصيل أسوة بآبائه وأجداده المنعمين رحمهم الله؛ ومن تجليات هذه التنشئة الأمومية الرفيعة أنه رحل إلى قرية ” كر ما أنت جوب ” لمراجعة القرآن الكريم بعد حفظه إياه تحقيقا لرغبة والده التي أملتها عليه والدته المباركة ” مام فات جاه ” لما كانت تعرف به هذه القرية المباركة من عناية لا تجارى في تحفيظ القرآن الكريم وتعليم علومه ، وقد كانت إقامته القصيرة فيها قياسية بكل المعايير ؛ إذ وظفها لخدمة شيخه والتماس بركة القرآن منه ، ونسجت خلالها قصة علاقة محكمة بينه وبين شيخه تخطت لاحقا كل الحواجز الاجتماعية والروحية .
وقد كانت هذه الدافعية أيضا سبب انتقاله إلى قرية كنين انجوب عند الشيخ/ مكمب صمب لإتقان فنون الرسم وضبط المتشابهات في القرآن الكريم ، بسبب ما اشتهر به هذا الأخير بالإتقان وجمال الخط والإلمام بمهارات نسخ المصاحف القرآنية، ويرجح أنه أتم على يديه نسخ أول مصحف له برواية ورش عن نافع عن طريق الأزرق .
وإشباعا لهذه الرغبة الشديدة في الاستزادة والتحصيل؛ تأتي رحلته الثانية في ثلاثينيات القرن العشرين والتي تذكرنا بما أورده العلماء وكتاب السير عن شدائد الرحلات العلمية ومعاناة الطلاب في سبيلها ، حيث كان الواحد يعرض نفسه لخطر الموت في سبيل تحقيق مبتغاه .. ففي هذه الرحلة تفرغ -رحمة الله عليه- لدراسة المطولات والمتممات في علوم الفقه المالكي واللغة والآداب العامة ،، ومن تجليات ذلك ما كان يتمتع به من دقة في التحقيق وفهم سليم لمسائل الفقه العويصة المبثوثة في مختصر خليل في الفقه المالكي والتي أربت على ثلاثمائة ألف مسألة صيغت بإيجاز يوصف عادة بالمخل وفق معايير التصنيف وضوابطه التربوية ، علاوة على مقدرته اللغوية وشاعريته المتفتقة في العربية والولفية .
ثانيا: الثقافة الواسعة ، نشأ الشيخ منذ صغره نشأة متنقلة غير مستقرة، أشبه بما يصفه الشاعر الشنقيطي/ محمد ولد بونا عن المحاضر المتنقلة في هذه البلاد:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا
فقد كان جل إخوته الكبار وأعمامه وأبناء أعمامه الذين نابوا والده المرحوم في تربيته وتأهيله مثله في سني التعلم، كثيري التنقل بين المراكز والمجالس العلمية المنتشرة في انجامبور وبول وكجور ، حريصين جدا على اصطحابه أينما حلوا، . علاوة على ما قام به شخصيا من رحلات علمية قادته إلى مختلف أرجاء البلاد .. الأمر الذي أكسبه خبرة واسعة ومعرفة معمقة بالبلاد والعباد وبالتحديد مواطن الضعف والقوة عند كل ، حيث كان عمدة في الأنساب وحفظ الأيام ، يستمع إلى المؤرخين والرواة الشعبيين مصححا وناقدا ، ويمد الباحثين وطلبة الأطاريح العلمية بما جاد لديه من معلومات أولية عن الممالك والسلطات التقليدية ، وهي الخبرة العملية التي نجح الشيخ في توظيفها بدقة لإدارة الناس وتحديد آليات التعامل معهم وفق ما يعرف اليوم بعلم : إدارة الموارد البشرية ، حيث كان يشبه معلم القرآن براعي الغنم الذي يرعى غنمه بطريقة إفرادية يحدد فيها سمات كل وما يقتضيه من طريقة خاصة في الرعي والسقي ،، ومن تجليات وأثر ثقافته الواسعة في مشروعه التربوي قدرته الفائقة على مراعاة الفروق الفردية بين الدارسين وبناء المقاربات على ضوءها بدل التشبث غير المبرر بالأساليب الجافة المعقدة في التعليم ، والتي غالبا ما تطرح مفهوما غريبا عن الذكاء والبلادة ، قد يبالغ في تنمية الجوانب السلبية على حساب الإيجابية لدى الدارس ، فيتصور خطأ أنه ليس أهلا للعلم ولا للحفظ . وقد سلك في سبيل تحقيق هذه الغايات التربوية النبيلة طرائق قددا لم يكن جلها معهودا في أوساطنا التربوية غداة تصورها ، لكن مرور الأيام وانتقال التجربة إلى مراكز أخرى داخل وخارج البلاد أضفيا عليها طابعا من حسن الظن والقبول ..
هذه الثقافة الواسعة التي استمدها الشيخ من رحلاته الطويلة داخل البلاد، واحتكاكه بزملاء دراسة ينتمون إلى قبائل شتى وعشائر شتى نمت فيه الروح الإيجابية والمرونة العالية في التصور والتفكير ، فلا يكاد يطرأ موقف صعب وخطب من الخطوب إلا وجد له حلا جذريا يتناسب مع خطورة الموقف وتأزمه دون رهق ولا شطط ، أو لجوء إلى استرجاع سوء الظن بالناس ونظرية المؤامرة التي يلجأ إليها ضعاف النفوس متى ثبت عجزهم عن رفع التحدي وتجاوزه ، فقد كان- رحمه الله –
شديد النقمة على التفرق والتعصب المقيت للمذهب والطائفة ، حريصا على وحدة المسلمين ، ملتمسا الأعذار للمختلف والمخالف لعل الله قد يظهر الحق على يديه يوما ما .
وتعتبر هذه الروح الإيجابية في الإدارة وفن التعامل مع الناس ضالة منشودة يتأكد احتياجنا إليها يوما بعد يوم بفعل الثورة المعلوماتية الهائلة التي نعيش انعكاساتها السلبية يوميا ، حيث تستغل وسائل الاتصال والتواصل المجتمعي استغلالا سيئا للوقيعة بين القرناء وتشويه الأعراض والسمعات ؛ مما يفرض على كل حريص على الوحدة والانسجام والتفاهم التحلي بقدر كبير من التأني وضبط النفس في التعاطي مع كل خبر يذاع استئناسا بقوله تعالى : ” لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ) ..عند ما تسود هذه الثقافة الإيجابية في مجتمع راشد؛ تتحصن الجبهة الداخلية وتتراص الصفوف ، فلا ترى أثرا للإحن والحزازات والحساسيات التي يثيرها المرجفون لتأليب ذوي القربى بعضهم على بعض . ولدينا في منهج الشيخ في التعامل مع المخالف والمعادي عبر ودروس ينبغي تلقينها للناشئة وتدريبهم عليها لئلا يتحولوا إلى مخرجات ضيقة الأفق والتفكير ، تضيق ذرعا بكل رأي جديد وتناصب العداء لكل داع إلى التغيير والتطوير كمعاداة الملأ للأنبياء -عليهم السلام – قديما بفعل التأليب الإعلامي الممنهج الممارس ضدهم من المتنفذين الحريصين على إبقاء مصالحهم والرهان عليها .
ثالثا: الهمة العالية ، أو ما يعرف في علم الاجتماع التنموي بالفعالية ، ويتجلى أثرها في وضوح الرؤية ونبل الهدف وواقعية الوسيلة ، وقد ترجمها مجتمعة في مواقف تاريخية تروى وتستقى منها دروس وعبر، حيث استلهم في مسيرته الطويلة تجارب الناجحين وصانعي التاريخ في منطقته مثل : علماء وأعيان انجامبور في كوكي واندام وفي غيرهما ، واضعا نصب عينيه ما تحقق بفضل الله على أيدي علماء الأمة الربانيين من هدى وصلاح ونفع عميم لصالح البشرية جمعاء ..
هذه الهمة العالية بلغت عند شيخنا مبلغا وصل إلى حد مقارنتها بما يعرف في الدين بالولاية، والتذكير بأن جل ما ينسب إلى هذه الأخيرة لا يتعدى شكلا ومضمونا إحدى مخرجات الهمة ؛ ولنا في قصة من ملكوا الدنيا ودوخوا العالم من الجبابرة والعدول خير أنموذج في تشخيص أثر الهمة في النهوض والترقي وتجاوز النكوص والتعثر .. ها هوذا الرجل الصالح الأسكندر المقدوني المعرووف بذي القرنين يوظف كل إمكاناته المادية والمعنوية لترجمة نعمة التمكين إلى برنامج عمل تنموي وإنقاذي طموح ، يتفاهم في ظلاله مع من لا يكادون يفقهون قولا ويبني سدا منيعا وحصينا لإيقاف فساد وانحراف ياجوج وماجوج وما ينسلون من عناصر الإفساد والتخريب ،، وهاهوذا نابليون الحاكم الفرنسي القوي يستخدم نفوذه العسكري بعد نجاح الثورة للوصول إلى شبه جزيرة سبيريا ومصر والشام ليحقق عمليا مقولة عبثية الاستحالة والجهل .
وهكذا كان شيخنا شغوفا كحال كل المبدعين بترك بصمات خالدة على أعماله ، وشديد الإيمان بفكرة التغيير والتطوير انطلاقا من إيمانه القوي بمحدودية الزمان والمكان ، علاوة على رغبته الشديدة في تقديم إجابات شافية عن الأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان في مساره وفي مصيره ، غير آبه بالقيود والسدود التي يسعى بعض ذوي الرؤية القاصرة والمحدودة لحصر الناس فيها وتكميم أفواهمم وتحجيم أفكارهم ، ولعل ذلك ما يفسر بعض معاناته مع أنصار الطائفية الضيقة والمذهبية المتحجرة والتي كان يخرج منها دائما منتصرا مرفوع الهامة غير مفرط ولا مفرط مستتأنسا بوصية شيخه أحمد الكبير امباي في الحياد والتعامل مع المخالف بموضوعية وإنصاف ، ثابتا في موقفه غير مداهن ولا مراء ( ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) .
هذا غيض من فيض مما يمكن استلهامه من حياة هذه الشخصية التي نصنفها ضمن رجال الفكر والدعوة والتربية في عصره ، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته ، وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى