في ظلال الحروف
المختار السالم
قد يَسمعُ اللحنَ من يَرَى بَيْضَ البَلابِل.
في يوْمٍ مُشبَّعِ بالغُيُومِ، يَـوْم نافذ الفَرَادَةِ في صَحْراءِ ما كانت سَماؤُهُا تُعَابُ إلا بالصَّحْـوِ، تعفنتْ رؤيةُ الكهْلِ “ممود”؛ قال إنَّ الرُّطُوبةَ سكينُ الصَّدرِ، وإنَّ “الصَّوْتَ الرَّاكدِ” في غدير “الزغلان” يُسمعُ من بعيد ما لم يلهث الأفقُ بالأجراسِ الكَــفيْفةِ.
يقالُ إنَّ “ممود” ولد “ليلةٍ الفتْـنةِ” في شهر أيلول من “عام الفئرانِ”، وكان ميلادهُ مع صيحَة النصرِ عند “البئر المهدوم”، وقد تورقت حناجر النساء زغاريدَ وأغْصَنَتْ أياديهنَّ بإيقاعٍ حنيثٍ، وكانَ في طفولتهِ نحيفاً جداًّ خشبيَّ الملامحِ كأنَّ جِـيْـفةً أرْضَعَـتْهُ، كأنَّ الحظُّ السَّيءَ تشمّع في أوْصَالِهِ… فغيرتْ خالتهُ حاله عبر علاجهِ بالقديدِ والسِّمْنِ وحساءِ “لكلكيه” وبيْضِ النَّعامِ وتَــمْرِ الشَّــنّة.
في فجْرِهِ، كان يوْمُ الغُيُومِ خالياً من الإيقاعِ، قال “الحبَّالُ” متنبئاً “إنَّ هذا يومٌ تضفرُ فيهِ الشَّرَارةُ لنفسها مزاجاً منَ الحدّيةِ مُوغِلاً في القدحِ..”. ثمَّ تولى نحو يمينهِ ليحكمَ لثامَهُ وهو يردد: “وجْهُ الخيرِ.. وجْهُ الخيرِ”..
“إنَّ شراراتِ النَّهارِ أكثر فائدة وأقلّ دخانا”.. يُصوِّب “الحَبَّالُ” للساحرةِ، لكنها تخرُّ عَــزْماً على رُؤيتها دوْنَ لعثمة مقَـفِّيةً بصماتِها على الترابِ لتكشفَ فجاًّ في الكهوفِ المعتمة، كانت تضربُ الرَّملَ بشدَّة وكأنهُ وئيدُ الملحمة في يومِ المأثمة، ثمَّ تُرْخي اللحافَ على وجْهها فيبدو وكأنه هُـدْبُ يُرفرفُ، فتستنشقُ التبغَ والرَّمَادَ، وتُعَبِّئُ غليونَها المدهونَ بزبدة تشكُو من كونها “زُبْدةً فقيرةً”… يُجْرَسُ “الحَبَّالُ” لنفسه “حتَّى الزُّبدةُ في الصيفُ لا تسلم من الشُّحُوْبِ”.
الحافزُ الحُلميُّ يظلُّ شَــغُــوْفاً بتثبيْتِ عتباتِهِ على عُيُونِ الجُرْفِ، و”الحبَّالُ”، ذلك الطفل كثير الوسواسِ، يركلُ الأرضَ ويحْثو على خرائط التنبُّؤ أمام الساحرةِ.
“الحبَّالُ” حينَ كان يُحرِّفُ جِـلدِ التمْسَاحِ ليصنعَ عظاءاتهِ في لعبةِ “الزواحف الطائرة”، لم تكن لديهِ حكايات، فانتعلَ رؤوسَ الشَّوْكِ حتى جَاوَزَ الهُوَّةَ مع مردةِ السيرِ والأساطيرِ.
لم يسخرْ ساعةَ اقترحَ على بعض الحكَّائينَ نَضْحَ قصَصِهم بفضلةِ كاهنٍ مخروف.
هناك سردياتٌ نَظَيْـفةٌ في حُنْجُرَةِ الرَّاوي، الذي حدَّثَـهُ عن وادٍ عال وجبلٍ عميقٍ؛ جبل الثلجِ، شقيق تمثالِ الصَّبيةِ التي تَـفَصَّدَ النَّدى على خدِّها.
منتصف يوم الغُيُومِ، صاحَ “الحبَّالُ” بظلالِ حروفِ الجرِّ “ما من مدينة في العالم تسمح لأحد بالتعرف على ملامحها.. هناكَ دائماً بقيةُ عفويةِ في المُدنِ التي ترسمُ دوْنَ ضَغِـيْنة”.
ببصرٍ زائغ؛ رمق المُزْنَ، تَموَّجتْ أسرابُ الطُّيورِ، وعلى الأرضِ سارعت قافلةُ النَّمْلِ، رفعَ قدمه اليُمْنى فهوتْ حثوة ُالرَّمْلِ أسفلَ..
قد يعتقد منْ ركَـلَ الأرضَ بأنها اهتزّت وأنَّ صوتَه ينابيع، وبصرَهُ قوسُ قزح!
الأبعادُ الشبحيةُ للرؤية والأحلام والتـنـبُّؤ لا تخرج من مهامِهِ الطقسِ، ومن تفاصيلهِ، ولكنها لا تقصِّرُ عن مقام استحضار النُّجُوم والكواكبِ في مُحاولة ترابية ما لإضاءة ما في الصُّدُوْرِ.
ولأنَّ يوم الغُيُومِ يومٌ “تلَـثَّـمَ” فَجْرُهُ على ليلهِ، صاح “الحبَّالُ” مُنْـتَـشياً: ألمْ أقلْ لكمْ إنَّ الحكيمَ من فرَّقَ بيْنَ اخضرارِ الجُفُونِ وبيْنَ طَحَالبِ السَّباتِ!
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”