Articles

الشيخ أحمد الصغير لوح ..من السيرة إلى المسيرة

أحمد فاضل لوح

إن هذه المقالة التي أكتبها وأخطّ سطورها ليست إلا محاولة بسيطة أدعو فيها لإعادة قراءة حياة الشيخ أحمد الصغير لوح قراءة جديدة، قراءة تبعد عن السرديات المعروفة، وتنأى عن الروايات المختزلة، وتشطّ عن الوسائط الجاهزة، وتعطي جانبا مشرقا من شخصيته القيادية في التسيير و الإدارة، وتُجلي وتظهر طرفا من عبقريته الجبارة والخارقة في التعايش، وهذا ما أهّل ذلكم الشيخ لتكون مادة غنية ودسمة للدراسة والبحث، واستعصى على العقلاء والألباء فهم ُكنهه وحقيقته، لأنه مازال ولن يزال لغزا صعبا أعجزبعضَ الدارسين والباحثين عن حلّ شفراته، وفك رموزه.
وهذا ما حفّزني وألهمني فكرة خوض هذه التجربة الغامضة الصعبة، وزيادة على ذلك ما رأيته في الأيام الأخيرة من الماجريات الدينية والنعرات الجاهلية التي استعرت أوارها مؤخرا بين بعض الجهات الدينية، فيما وصلت الأمر إلى حزازات نفسية وعدم ضبط النفس، جراء تراشق سهام التهم والتبديع، وتبادل أصابع التجهيل والتفسيق من كلا الطرفين.
وفي خضم هذه الأحداث وأنا أقرأ فصولها ، طارت بي الذكريات إلى صورة مولايَ الشيخ أحمد الصغير لوح، وحضرني حسن تدبيره للخلاف والشؤون الدينية الذي أسس به معهده العريق الذي أصبح قبلةً لأبناء المسلمين .
ورغم تنوع أجناسهم و أعرافهم وعاداتهم إضافة إلى تعدد هوياتهم الدينية، وتغاير انتماءاتهم الإثنية والفكرية، استطاع _ بحنكته الوقادة، وفطنته الثاقبة_ أن يسوس هذا العدد الهائل من الناس بدون أن تحدث ضجة أو بلبلة، أو تقع بينهم شحناء وتشنّجات .
أثناء التفكير حول هذه القيادة الرشيدة وتلك التربية المثالية ، حزبت أمري وطوّعت لي نفسي القيام بهذا المهام، وطرحت نفسي هذا السؤال الذي طالما تلجلج في فكري، وخالج شغاف خلدي، وهو لماذا لا نتناول شخصية الشيخ أحمد الصغير لوح كمسيرة علمية متكاملة، أو مدرسة فكرية قائمة، لها رُوّادها ونُظّارها يستقون منها مناهج وقواعد تُطبّق تجاربه في واقعنا المعاش، بدلا من تناول شخصيتها كشخصية أسطورية عابرة، واستعرت هذا العنوان من أحمد الخير العمري في عنوانه: عمر من السيرة إلى المسيرة
ولذلك لا أتقيد في هذه المقالة بتلكم القيود الأكاديمية الضيقة، بل سأتحرر وأشقّ لنفسي طريقا خاصا يخالف عن الطرق المعهودة في الدراسات الجامعية، بل سأنطلق مستندا عن قناعتي الفكرية ومنظوري الفلسفي الخاص.
وإن أوّلَ ما لفتَ انتباهي ونبّه خاطرتي وأنا أتوسّم وأرتسم حياة الشيخ أحمد البطل المغوار، هو ظهور وسمات المربي الإيجابي في ملامح مشروعه نظرية وممارسة وتطبيقا، وبروز قسمات القيادي الناجح تسييرا وإدارة، وهذا يُنبئ عن عمق فكره، وسداد رأيه الذي تجلّى في منهجيه التربوي والإداري، وذلك أن ديداكتيك الذي يمثل الجانب الإجرائي والتطبيقي للتربية والتعليم، وهو الجانب الأهم في العلوم التربوية، وقد طبق الشيخ حيثياتها قبل أن يعرف أكثر السنغاليين أبجديتها، ويتعرفوا مناهجها، ويستوردون نظرياتها من الخارج، وهذا التضلّع المنقطع النظير، هو نقطة قوة الشيخ، وهو ما خوّل له نجاحه الباهر في مشروعه التعليمي التربوي.
ولذلك فالوقوف عن حد الرواية والحكاية لدى الحديث عن منهجه وتجربته ليس كافيا، بل الأفضل والأحسن أن تتجاوز الأسطورية في سيرته، وتحوّل صفاته إلى سمات ونظريات وتُتبنى نظرياته التي نظّرها في التربية ، وتُثرى تأصيلا وتطبيقا مثل النظريات التربوية الأخرى ، وذلك تحت موضوع: التربية الصغرية وسمات المربي الإيجابي، وتُعتمد عليها في مادتي المناهج وطرق التدريس، وإعداد مربين يمتلكون الرؤية والمنهجية والممارسة والتطبيق، ويمارسون التربية من خلال الرؤية الصغرية.
ومما حداني وساقني أكثر وأنا أدير لحاظي وأجيل نظري وأقلب صفحات كتاب: الشيخ أحمد الصغير لوح في أيامه الخالدة، وبينا أقرأ صفحاته بنظرات التدقيق والفحص، وبعين التدبر والتأمل، فإذا يتراءى لي صورة سيدنا إبراهيم الضافية، وشخصيته البارزة، وكيف اجتمعت ملامح أمة وضيئة في ، وتشكّلت صفات داعية حكيم قانت لله شاخصة في مُحيّا مهجه، طاها من داء التعصب الديني والمذهبي الضيّقين، الذي أُشرب في قلوب كثيرين ممن يدعون إلى الله، فسقطوا في هاوية التشنّجات الفكرية المقيتة، وعلمت أن الشيخ أنموذج حي ومثال واقعي في تدبير الخلاف والشؤون الدينية.
والشيخ لم يكن أحد يعلم له انتماءا ولا تعصّبا، أو يدفعه دواعي العصبية والهوى، لأنه كان على علم بأنه لا تهم الانتماءات الضيقة ما دام رحب ربقة الإسلام يجمعنا ويلمّ شعثنا، وسعة الدين تضم شتاتنا، وأن المسلمين جسد واحد لا يمكن أن تسفيه رياح الدعوى الجاهلية المُنتنة، وأن الاختلاف لا يفسد للقضية ودّ، والاختلاف طبيعة بشرية، والطبيعة تعمل في تخالف الناس على المذاهب والمقالات والآراء والنحل، وأن الفهومات البشرية ليست معصومة عن الخطأ والزلل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة، والأسوة المتكاملة الذي اُمرنا باقتدائه واتباعه، أما غير النبي فاتباعه ليس أصالة بل تبعا لأنه غير معصوم، وأن مراعاة الخلاف أصل أصيل من أصول مذهبنا المالكي، وقناة مهمة لتجاوز الخلافات البشرية.
ولذا فإن أول ما يسترعي نظرك، ويثير فضولك، وأنت تقرأ صفحات مشرقة من حياته، هو حسن تنظيمه وإدارته وتسيره، وزيادة على التعايش الاجتماعي غير المعهود في أروقة معهده رغم الفوارق بينهم، فالحب والتجاوب والتناغم والتعارف هو المنطق المهيمن، واللغة السائدة بينهم، تراهم من شدة تراصف صفوفهم وتلاحمهم وترابطهم إخوانا على سرر متقابلين. وأدركت يقينا أن هذه المهارات الفنية في تدبير الخلاف والشؤون الدينية هي ما نفتقدها في مجتمعنا السنغالي
والشيخ أحمد كان واعيا بأن الهدف في صناعة الإنسان المسلم لا يتحقق بتكوين جيل تشحنهم أفكارا طازجة، وآراء جاهزة تخولهم للدفاع عن مذهب أو انتماء، ويصنعون أصناما من البشر يحيطونهم بهالة من التقديس، ويتعصبون لخلق يكبر في صدورهم، ويقضون حياتهم كلها في جدال ودفاع وتورية، وكلام ومخاتلة وتزويق وتلبيس، وليّ أعناق النصوص والآيات، وتفسيق وتبديع وتمويه وقشر بلا لب، والشيخ أحمد تبنى فكرة المدرسة المحمدية الخالصة، والذي يتمحور في تشكيل عقل مسلم نيّر غُفلٍ عن الأهواء والشبهات، خِلوٍ عن الشحناء والبغضاء، بعيد عن العاطفية الدينية الجياشة، يحمل رؤية متكاملة للكون والإنسان، ويقدر على تجشّم أعباء الدعوة في سبيل الله، وذلك بطريقة لا تَطالها العنف والعنجهية والاستعلاء، بل يتم بشكل سلس وسليم، لا يخدش المشاعر، ولا يجرح القلوب.
وأخيرا هذا المنهج هو ما ينبغي أن يُستلهم من سيرة الشيخ أحمد، ويُستخلص من مشكاته، ويُقتبس من تجاربه، ليكون نبراسا ساطعا، ومعالم منهجية لاحبة، يستبصر ويستنير بها كل موفق من الدعاة إلى الله، لأن نجاح أي مشروع مؤسساتي منوط بعمق الفكر، وصحة النظر، وسلامة المنهج والمنحى.

طالب في مرحلة ماجيستير، مؤسسة دار الحديث الحسنية – جامعة القرويين – مغرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى