actualite

رمضان فرصة للتغيير

محمد علواني سليمان

إن من أخلاق المؤمنين وأدبهم مع ربهم أن يتعرضوا لنفحاته، وأن يقبلوا عطاياه وهباته، تلكم النفحات التي تهب عليهم من عبير الجنة، فترطب القلوب اليابسة، وتلين الأكباد القاسية،وتحيل الحياة إلي جنة غناء في قلب المؤمن، ولعل أروعها علي الإطلاق تلك الأيام التي أظلتنا: أيام رمضان ، يهل علينا هلالها ، فنجدد معها الايمان، ونحطم اليأس، ونحيي الأمل، ونصفي النفوس، ونوحد الصفوف، وتهمل قلوبنا الأسباب؛ وتتعلق بمسبب الأسباب، وقد زودتنا بكل ما يجدد هذه المعاني في قلوبنا بروعة إطلالتها ،وبهاء قدومها، وصيامها وقيامها، وذكرها وقرآنها، وأحداثها وملاحمها، فلا تمر علينا إلا وقد صاغت منها قلوباً جديدة، ملؤها الايمان، الله غايتها، والرسول قدوتها ، والقرآن دستورها، والجهاد سبيلها ، والموت في سبيل الله أسمي أمانيها….

أيام معدودات، فيها نعالج ضعفنا، ونزكي نفوسنا، ونقِوِّم اعوجاجنا، ونجبر تقصيرنا، ونحمل علي مكارم الأخلاق أنفسنا، وعلي حب الخير قلوبنا، لنحقق إنسانيتنا، ونحقق مراد الله منا: فنكون في الأرض خلفاءه الذين يحق الله بهم الحق ويبطل بهم الباطل، فاللهم تقبل فيها توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخيمة قلوبنا…..
أيام معدودات، تهل علينا، فنستنشق بقدومها عبق النصر، وتنخلع من قلوبنا روح الهزيمة، ونتذكر بقدومها أياماً لله، قطع فيها دابر الكافرين، ونصر فيها عباده المؤمنين، رُغم قلة عددهم، وضعف عدتهم؛ فما النصر إلا من عنده، يختص به من ينصره، وينزِّله علي من يشكره، نتذكر ذلك فتهون علينا المصاعب، ونستعذب برجاء الأجر المتاعب، ويُطرد عن قلوبنا اليأس، ويسكنها الأمل، ونتحفز للعمل، ونسترخص كل ما نبذله في سبيل الغاية، ونوقن بالنصر ولو بعد حين…..

فما أعظمها من أيام، وما أعظم بركتها، وما أعظم الزاد الذي تزود به من يتعرض لها، فهي بحق نفحة من نفحات الله، فلنتزود منها بما يعيننا علي مواصلة المسير، وأداء المهمة التي خُلقنا من أجلها إلي أن نلقي الله، فنفوز بجنته ورضاه.

وليكن زادنا الإيماني الأعظم ونحن في بداية هذه النفحات الربانية المباركة توبة نصوحاً إلى الله وثورة حقيقية على جوانب التقصير في حق العبودية وعلي ما خلفه الهوي في قلوبنا من أدران…

ولنتزود أول ما نتزود منه في هذه الأيام المباركة من الصلاة ،وليتني كنت أخي الحبيب وأنا أسدي إليك نصيحتي ممن يعطونها قدرها ويتعبدون الي الله بأسرارها ، ولكنه واجب التناصح بين أفراد الأمة تنبيهاً للغافلين ومعونة للعاقلين وسبيلاً الي الله رب العالمين….

إنها الفريضة التي تتعلق بها القلوب بالله فلا تلجأ الي أحد سواه،تدعوه فيها بأسمائه الحسني وصفاته العليا،وتتعرف بها عليه قوياً قادراً لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، جباراً يجبر كسرها ويداوي جرحها ويقوي ضعفها ،قهاراً لكل من علا وتجبر، لطيفاً بها لا يريد لها إلا الخير ويمهد لها كل سبيل إلى رضوانه وعفوه ومغفرته ،فلتكن هذه علاقة قلبك بالله وانت في الصلاة ،فلا تنظر الي أسباب استفرغتها واعلم انك بين يدي مسبب الأسباب الذي أمره ما بين الكاف والنون إذا قال للشيء كن فيكون…
إذا حزبك ما تراه من استشراء ظلم الظالمين وهوان الموحدين في كل بلاد العالم، فاستشعر أن الله أكبر مع كل هتاف تهتف به في الصلاة، ولتوقن أن الله قادر عليهم وأنه يمهلهم ولن يهملهم وأن العاقبة للمتقين….
ولتجعل الصلاة منهجاً لحياتك، ونبراساً تستقي منه ضوابط علاقاتك بجميع أفراد مجتمعك حكاماً ومحكومين، فكما قدمت لإمامتك في الصلاة الأحق بها كما أرشدك نبيك صلي الله عليه وسلم؛ فقدمت الأحفظ لكتاب الله، الأعلم بسنة رسول الله، الأمين على أحكامها، القائم بأركانها،فأصبحت طاعته بذلك عليك واجبة، ومخالفته عمداً تخرجك من حظيرة الإيمان ،ومتابعته فيما يرضي الله عبادةً، بل ولا تصح صلاتك الا بها ،فتقوم إذا قام، وتركع إذا ركع، وتسجد إذا سجد، فان خالف منهج الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما فعلت ذلك كله في صلاتك، فليكن هذا منهجاً لحياتك ، فتوسِّد الأمر إلي أهله،وتُحمِّل المسؤولية لمن هو أهل لها: القويَّ الأمين، ويكون قوام علاقاتك بمن حولك التعاون علي البر والتقوي، وطاعتك لأميرك طاعة مبصرة هدفها الوصول إلى مرضاة الله، وضابطها: ان لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هكذا علمتك الصلاة……
فلنصلح في هذه الأيام المباركة صلاتنا، ولنتزود منها لإيماننا تعلقاً بالله، ويقيناً بنصره، ومعرفةً بقدره، مؤدين لها في أوقاتها ،مقيمين أركانها، متعبدين إلي الله بأسرارها….

ولك أيها الحبيب كذلك في كتاب الله خير زاد ، بتلاوته ينشرح صدرك وتطمئن نفسك ويسعد قلبك ويقوي أملك ويكثر خيرك ،وتفقه ماضيك وحاضرك ،وتستشرف مستقبلك ،ولم لا وهو كلام رب العالمين الذي خلقك وخلق لك الكون من حولك ”أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ” فهو يعلم سرك وعلانيتك وضعفك وما توسوس به نفسك وما ينفعك ويضرك ،وهو أقرب إليك من حبل الوريد وأحن عليك من أبيك وأمك الذين كانا في صغرك لا يطعمان حتي تطعم ولا ينامان حتي تنام ؛وفي كبرك يستسيغان العلقم ولا ان تشاك بشوكة
اتل كتاب ربك،وتعرف من خلاله علي نفسك، فإن كنت محسناً فزد في إحسانك، وإن كنت مسيئاً فقوِّم اعوجاجك وأمسك عن إساءتك، تخلق بأخلاقه، وتأدب بآدابه، واصطبغ بصبغته،حتي تكون كما كان نبيك صلي الله عليه وسلم:« قرآناً يمشي علي الأرض»،
طالع فيه قصص المتجبرين وحالهم مع المؤمنين، لتتعرف على طبيعة الطريق وأن ما تلاقيه في جنب الله هين بجانب ما لاقاه إخوانك الأوائل لتصبر صبرهم فتنال أجرهم:”إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ“
ولتعرف أن بعد العسر يسرا ،وأن الليل مهما امتد فلابد وأن يعقبه الفجر ،وأن العاقبة للمتقين:” وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ“
ولتثق في النصر مهما طال الأمد وانتفش الباطل وظن غيرك ان أهل الحق قد أحيط بهم:”حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ”
ولتوقن أنك الأقوى طالما كنت في معية الله وأن غيرك هو الأضعف إن بارز الله بالمعاصي حتى ولو كانوا علي قلب رجل واحد لوئد الحق ولو أنفقوا في سبيل ذلك الدنيا بأسرها:”إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ“
ثم لا تيأس إذا استفرغت الأسباب ولا تتعلق إلا بمسبب الأسباب لأن النصر من عنده وحده وكل شيء في الكون يسير بأمره وتحت مشيئته وقدرته “وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”
ولتعالج شح نفسك في هذه الأيام المباركة بصلة الأرحام، والمسح علي رأس الأيتام، والعطف علي الفقراء والمساكين، وتقديم ما استطعت من عونٍ للآخرين، فقيمتك الحقيقية ليست فيما تملك، ولكن فيما تمنح، وعلي قدر بذلِك ينصلح قلبك، وتطيب نفسك «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» …
كانت هذه تطوافة سريعة حول بعض عوامل التغيير التي يوفرها لنا شهر الصيام، والتي لو صادفت من يؤمن بها، ويخلص في الأخذ بها، لصاغت منه إنساناً جديداً قادراً علي إحداث التغيير المنشود في أمته بما يجعلها كما أرادها الله:«خير أمة أخرجت للناس»، فتستحق أن تحظي بين الأمم بمكانة الأستاذ الذي يسترشد به العالمون إلي ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم، بلغنا الله أجر رمضان، ولا حرمنا خيره، وأعاننا فيه علي أنفسنا، وجعله شهر نصر و فرج علي المسلمين في كل بلاد العالم، إنه سميع قريب مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بقلم/محمد علواني سليمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى