Articles

ماسيرو، الذهب الأبيض ..

دكتورة أمينة العريمي

” لا تتوقع من رجال المخابرات في بلادهم أن يعملوا على خلق إرادة حقيقية تعبر عن مآلات الوطن وتطلعاته ، أو حتى يتبنون رؤية قد تساهم في تغيير واقع إعتادوا على العيش لأجله، وهذا يبدو كافياً لنا بعد أن اخترنا الهدف ، فالألغام لا تختار أهدافها ولكن الأهداف هي من تختار”، هذا ما جاء في رسالة “هندريك فيرويرد” مهندس الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى أحد رجاله في ماسيرو الذين أوكل لهم زعزعة الأمن في ليسوتو.

ترتبط “ليسوتو” في الذاكرة الإفريقية بمؤسس أمة ” باسوتو ” الملك “موشوشو الأول” الذي نجح في تأسيسها ككيان واحد عام 1822 واتبع دبلوماسية توفير الأرض والحماية لأعدائه المهزومين ، مما ضاعف أتباعه وأغرى القبائل الأخرى بالإندماج تحت لوائه ، فأطلق عليه شعبه إسم “لتلاما” وتعني بلغة السسوتو “الرابطة القوية”، إلا أن تنامي قوة أمة الباسوتو أغضبت البوير في الجنوب الإفريقي فبدأ الصراع بين الجانبين وإنتهي بطلب “موشوشو” الحماية البريطانية ، وبذلك أصبحت ليسوتو إقليماً بريطانياً.
بعد إستقلال ليسوتو عام 1966 برز دورها كعامل مؤثر في خط سير الأحداث السياسية في جوارها الإقليمي بسبب دعمها لنضال المؤتمر الوطني الإفريقي ، ومنحها اللجوء للفارين من حقبة الفصل العنصري ، مما أثار ضدها موجة أجبرت ساستها على تغيير موقفهم السياسي في وقت غابت فيه الإرادة الشعبية ليحل محلها واقعٌ لا يمثلها.
تلمست ماسيرو الحديثة طريقها للنهوض ونجحت أن تخلق لنفسها كياناً متفرداً في الجنوب الإفريقي، إلا أن احتدام الصراع اليوم في أراضيها يبدو خارجاً عن إرادتها في ضوء إمتلاكها للمياه العذبة ، أو ما يطلق عليه “الذهب الأبيض” حيث تعتبر المياه في “ليسوتو ” من أعذب أنواع المياه في العالم ، وهذا ما يفسر دعم الولايات المتحدة لعجلة التنمية في “ماسيرو ” والذي كان أثره واضحاً بدليل إستفادتها من قانون النمو والفرص في إفريقيا “أغوا” لتصبح أكبر مصدر للملابس لواشنطن من إفريقيا جنوب الصحراء، وتمويل الإتحاد الأوروبي لمبادرة “رينوكا” وتعني “نحن النهر” لإستعادة موارد المياه لمستقبل مائي آمن، ولتعزيز ذلك تمت دعوة الملك ليستي الثالث لإلقاء كلمة في المنتدى الأوروبي للشراكات الدولية في يونيو الماضي في دلالة واضحة على تنامي الحراك الدولي في ماسيرو.
وجدت ماسيرو في الدعم الإماراتي والخليجي فرصة لتطوير رؤيتها المستقبلية وتحويل البلاد لمركز تعبئة للمياه المعدنية وتصديرها للخارج، فمولت الإمارات مشروع البنية التحتية للمياه في “ليسوتو “ودعمت خطة تنويع مصادر مياه الشرب مما سيساهم في تلبية إحتياجات السكان من المياه حتى عام 2025، وكان لموقف ليسوتو الداعم لدولة الكويت عام 1990 دوراً محورياً في دعم الكويت لمصادر المياه وبناء السدود “سد ميتولونج” الذي يعتبر نقطة فارقة في تطوير الخطة المستقبلية لقطاع المياه الليسوتي.
أهم ما يؤرق ماسيرو اليوم هو إدراكها بأن إسقاط نظامها الملكي ، وإن كان دستورياً ليس صعباً إذا إقتضت المصلحة الدولية ذلك ، واعتماد ليسوتو على جوارها الإقليمي لن يجدي نفعاً أمام توافق الرؤى السياسية حول الثروة المائية التي تتميز بها، مع إدراك الأطراف الدولية بأن ملوك “ليسوتو “على مر التاريخ من بعد المؤسس “موشوشو الأول” وهم يفتقرون للقوة السياسية التي تمكنهم من المحافظة على عروشهم بدليل إقدام رئيس الوزراء الأسبق “جوناثان” على تعليق صلاحيات الملك “سيسو” ونفيه إلى هولندا عام 1970 ، ونجاح اللواء “ليخانيا” بتقليص سلطات الملك ونفيه إلى إنجلترا ، ولم يسترد حكمه إلا بعد أن أطاح القائد العسكري “رامايما” بالحكومة وتمت إعادة الملك إلى عرشه عام 1995 بدعم من الراحل “نيلسون مانديلا” في دلالة واضحة على هشاشة النظام الملكي وهذا ما أدركته حكومة رئيس الوزراء “ماجورو” فعملت على تدشين جهاز الأمن القومي إستباقاً لأي تطورات مستقبلية.
يبقى السؤال هنا ما الذي سيجعل سيناريو إسقاط الملكية الدستورية في “ماسيرو ” أمراً قد تتوق لتحقيقه بعض القوى الدولية؟ وإذا افترضنا أنه وقع فعلاً فما هو الدور الذي ستلعبه جنوب إفريقيا في ذلك ، خاصة إذا علمنا بأن مشروع ليسوتو لمرتفعات المياه الذي يهدف لتزويد ليسوتو بالكهرباء من جنوب إفريقيا في مقابل توفير ماسيرو المياه لجنوب إفريقيا قد تطاله رياح السياسة الهوجاء؟ أم أن ضم ليسوتو الواقعة داخل أراضي جنوب إفريقيا إلى بريتوريا هو الأقرب على المدى البعيد لمواجهة التحديات التي تعترض مستقبل القوى الدولية في منطقة الجنوب الإفريقي.

باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي
afrogulfrelations_21@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال رائع في غاية من الاهمية زودتنا بالمعلومات الهامة شكلا ومضمونا فجنوب افريقيا دولة ذات ثروة معدنية وزراعية لكن نتيجة التمييز العنصري أدى إلى كثير من التداعيات واضرار الخ… شكراً على هذا الاسهام القيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى