Articles

فِي الْجَلِيدِ السُّوَيْدِيِّ…

د. شيخ امباكي جوب

في السويد، أقصى شمال أوربا، قضيت إجازة لا تُنسى. في بلاد الصقيع، لسع البرد وجهي، وانهمر المطر فوق كتفي، وأنا أتنقل بين جزرها المتناثرة، مندهشًا أمام طبيعة خلابة تأسر العين والقلب. البهجة غمرتني وأنا أتسكع في شوارعها،و حدائقها، وجزرها، أو أجلس على متن حافلة، أو قطار، او سفينة، أرقب من خلف النافذة، مناظر ساحرة، كأنها لوحات أبدعتها يد الرسام الهولندي فان كوخ بفرشاة تنثر الضوء والظلال كأنها ترسم العالم لأول مرة. هنا، في هذه البلاد، بدا لي حب الإنسان للطبيعة فطريًا، عميقًا، كما لو كان جزءًا من كيانه.
هنا، كل شيء محسوب، مضبوط كنبض ساعةٍ لا يعرف الاختلال، وسائل النقل تمرّ كالطيف، لا تعتذر، ولا تنتظر. الناس يمضون بخطى سريعة، بوجوه مطفأة كأنما يحمل كلٌّ منهم همًّا لايُروى .لكن، حين تَكسْر هذا الجدار البارد بكلمة، بسؤال، فجأة، ينظر إليك أحدهم بعينين مندهشتين، ثم تنفرج ملامحه، ويمنحك ما استطاع من عون، بل من إنسانية…ثم ينصرف مسرعًا كأنما يطارده شبح.
جئت إلى السويد مدفوعًا برغبة جارفة في اكتشاف المختلف. كنت أبحث عن الغريب، عن الجديد، عن شيء لم أعرفه في وطني ولا في باريس. السويد كانت وعدًا بالاختلاف، ونفذت وعدها. أهلها لا يخشون التنوع، عرقيا كان،أم ثقافيا، أم دينيا، بل يحتفون به. هؤلاء، على نقيض الفرنسيين ــ الذين يريدون أن يفرنسوا كل غريب ــ لا يُظهِرون تحفظًا حيال الغريب، بل يرون في كل اختلاف فرصة غنى، لا تهديدًا. كأن لسان حالهم يتمثل قول الكاتب أنطوان دي سينتكسبري: اختلافك عني، يا أخي،لايضرني، بل يزيدني ثراء.
لم أكن أتوقع أن أجد في السويد ما يفوق فرنسا من حيث رقي الصناعة، وروعة البنيان، وتقدم العلوم والتكنولوجيا. لكن الواقع كان أبلغ من التوقع. من يدري؟ فالسويديون ينتمون إلى الإنجلوساكسون الذين يضرب بهم المثل في البراغماتية والإتقان.
رافَقني مضيفي إلى محطة المترو المؤدي الذي سيوصلني إلى المطار. ودّعني في عربة القطار، وهو يزودني بآخر التعليمات، حتى لا أضل الطريق، وحتى أصل إلى وجهتي بأمان. كنت في الحقيقة مستأنسا بحديثه وسط هذا الصخب، حشد من الناس يركضون في كل وجهة كأنهم في القيامة الكبرى. محطات المترو في أوربا تملاني وحشة وذعرا. أقف وحدي في المحطة، محاطًا بالضجيج والصمت معًا، والرهبة تتسلل إلى داخلي كلّما مرّ هذا الوحش المعدني، يندفع كالسهم، يهز الأرض تحت قدميّ، يزأر بجنون، يتوقف فجأة، ليقذف حشودًا من الناس، ويبتلع أخرى، ثم ينطلق من جديد في عتمة النفق، كأنما يمضي إلى عالمٍ مجهول لا رجعة منه.
انطلق القطار كالبرق الخاطف. وقبل أن أستوعب الموقف، لمحت في المترو يدًا ترتفع غير بعيد وتلوح إلي. رفعت بصري نحو مصدر التلويح، وإذا بفتاة إفريقية الملامح تبتسم لي بثقة. كان في ابتسامتها شيء من دفء الشمس الغائبة، فراحت نفسي تستكين. تقدّمت نحوها، وأشارت لي بالجلوس إلى، فجلست قبالتها في ثقة وفضول.
سألتني مباشرةً، بالفرنسية:
ــ أنت من السنغال، أليس كذلك؟
ــ نعم، … وكيف عرفتِ ذلك؟
ــ ملامحك، لهجتك، حديثك مع صاحبك، كلها تشي بأنك من هناك. أنا جاينابا، وهذه صديقتي. نحن من دولة مالي.
حين نطقت بتلك الكلمات، بدا لي وكأن حاجزًا قد تهشّم، وكأن زجاج العزلة قد تكسر دفعة واحدة. وتبدّد شعور ي بالغربة. شعرت في تلك اللحظة أنني وجدت أختًا ضائعة، أو صديقة مألوفة تعود إليّ بعد غياب.
قالت الفتاة، كأنها تقرأ في وجهي الحيرة:
ــ سمعنا حديثك في المحطة مع صاحبك فعرفنا أنك غريب في هذه البلاد، تتوجه إلى المطار. لا تقلق، أنا وصديقتي سنرافقك إلى هناك، حتى لا تفوتك طائرتك.
انفرجت أساريري، كأن نسمات من دفء الوطن هبّت عليّ في هذه الأرض الباردة. كانت كلماتها تطمئنني، تزيل غربتي، وتزرع في قلبي الأمان. كيف لا، وأنا أجد في عربة المترو فتاتان من مالي، من البلد الجار، كأنهما أختان بعثهما القدر لتكونا عونًا لي في هذا الركن القصيّ من العالم؟
كانت الفتاة التي أومأت إلي رقيقة القسمات، بشرتها داكنة كخشب الأبنوس، تلمع عيناها بحنان صادق، وتزين وجهها ابتسامة واسعة تكشف عن أسنان بيضاء ناصعة. كانت ابتسامتها تغمرني براحة لا تفسير لها إلا ذاك الرابط العميق، رابط الانتماء إلى الأرض الإفريقية، إلى الجذور نفسها، إلى ذاكرة مشتركة من الشمس والأرض والدم.
كانت صديقتها جالسة بجانبها، بنفس البشاشة، بنفس الحضور الدافئ، كأنها تعرفني من زمن بعيد. كانت تتأملني خلسة كما لو كنت عائدًا من رحلة غياب طويلة، ولم تكن فرحتها بي أقل من فرحة صاحبتها. لم أكن وحدي، كنت بين أهلي.
لا أعرف سرّ هذه العلاقة العجيبة التي تربطني بمالي. كلما ذُُُكرتها أو ذًُكرت أمامي، تهاطلت في ذاكرتي صور من المجد والبطولة، من تاريخ الإمبراطورية التي بنتها أيدي الأجداد على هذه الأرض. كلما سمعت نغمة من نغمات الماندينغ، أو عزفًا على الكورا، أحسست أن لغة الماندينغ ليست فقط لسان شعب، بل سجلًا لعظمة أرض، وذاكرة شعب لا يموت.
تجاذبنا أطراف الحديث نحن الثلاثة، كأننا إخوة فرقهم الزمان والمكان ولم يفرّقهم الشعور والوعي. عدنا إلى إفريقيا، بعد غربة طويلة، وها نحن الآن نحتسي الشاي تحت ظلال الشجرة الكبيرة.
حكت لي جاينابا آلام الغربة. قالت بنبرة حزينة:
ــ نعيش في السويد منذ سنوات عديدة، لكن الحياة ليست بنا رحيمة. الصقيع هنا ليس فقط في الطقس، بل في النفوس، في المؤسسات، في العلاقات. حاجز اللغة هو أول العقبات. لا نتقن اللغة السويدية بما يكفي للترقّي في العمل.
فهمت فيما بين السطور أن المشكلة لا تكمن في الحاجز اللغوي فقط، بل في مستوى التعليم، في الفرص الغائبة، في الشعور الدائم بأنك أجنبي في أرض الغربة، مهما حاولت أن تنتمي.
شيئًا فشيئًا استحال حديثُنا إلى السياسة… إلى إفريقيا، قارتِنا الأم، المكلومة والجميلة، الحزينة والمفعمة بالأمل في آنٍ معًا.
تنهدتْ الفتاة التي تجلس بجانبي، وبدت في صوتها نبرة اختناق دفين. قالت وهي تحدق في نافذة القطار كأنها ترى من خلالها وطنها البعيد:
ــ الأوضاع في مالي تزداد سوءًا… الأمن مفقود، والسياسة في مهب الريح، واليأس يتمدد في الشوارع والبيوت. الجماعات المسلحة في الشمال تهدد وحدة البلاد، العسكر استولى على الحكم، ولا أمل في الرجوع إلى نظام ديموقراطي في المستقبل القريب، لا أرى بصيصًا من نور.
بدت كلماتها كمن يهمس لنفسه، لكنها كانت تبوح لي بكل ما يعتمل في قلبها من وجع. ثم التفتت نحوي، كأنها تذكرت فجأة، وقالت بعينين تلتمعان ببريق مختلف:
ــ لكن السنغال… السنغال تشرق فيها شمس الأمل! هي جوهرة إفريقيا الغربية، بؤرة الضوء في هذا الظلام. شعبكم أبيّ، لا يرضى بالظلم، ولا يصمت أمام المستبدين. كنا نتابع نضالكم، أنتم جسر الأمل الذي نعبر عليه كلما خانتنا أرضنا.
سكتت لحظة، ثم أضافت بعاطفة لا تخفى:
ــ نتابع عن كثب ما يحدث عندكم في هذه الآونة، خطوات حثيثة إلى الأمام: طرق سريعة، وسائل نقل حديثة، جسور… أنتم تمضون، رغم كل شيء، نحو النور.
كانت تتكلم، وعيناها تشعّان فرحًا وفخرًا، كأنها تتحدث عن بلدها لا عن بلد جار. وأنا أستمع، شعرتُ بدفء غريب يتسلل إلى قلبي. صحيح أن السنغال مرت بمرحلة عصيبة، هزات سياسية، دماء سالت، أرواح أزهقت، ومخاوف خيمت على القارة بأسرها. لكن السفينة رغم العواصف، لم تغرق… تأرجحت، لكنها رست.
كانت كلماتها تمطر أملاً. لكني كنت أقاوم رغبة ملحة في أن أكشف لها عن رؤية مغايرة. أردت أن أقول لها:
ــ نعم، السنغال اهتزت ولم تتهاوَََََ، لكنها لم تنهض بعد. ما زلنا نحلم بأرض تُشبع أبناءها، لا يدفعهم البؤس إلى قوارب الموت. رأيتُ شباب بلادي هناك، في باريس، على ضفاف نهر السين، فيما حول برج إيفيل، يبيعون الأساور والتذكارات للسياح. أكثرهم جاءوا في قوارب هاربة، بعضهم ابتلعهم الأطلسي، وبعضهم الآخر قذفهم إلى شتات المدن الأوروبية. لو كانت الحياة في السنغال وردية، لما باعوا آمالهم لعواصف المجهول.
أردت أن أفشي لهما كل ذلك، أردت أن أصرخ به، لكنني آثرت السكوت، لم أرد أن أبدد ضوء الحلم في قلبَي هاتين الفتاتين. كانتا ترسمان للسنغال صورةً جميلة، ناصعة، نحتاج إليها، نحن أهلها، كما تحتاج إليها إفريقيا جمعاء. فكيف لي أن أُطفئ تلك الشمعة؟ كيف أجرؤ على خنق ما بقي من حلم في قلوب تنتظر بلهف فجر النهضة الإفريقية؟ الآمال والاحلام محرك الأفراد والأمم، ومن لي أن أقتل الأمل والحلم في هاتين الشابتين؟
كل ذلك أسررته في نفسي، وقلت في داخلي:فليكن الحلم، حتى لو كان أكبر من الواقع… فربما، من حرارة الإيمان به، يولد واقع جديد.”
كنت بين الفتاتين ضيفًا عزيزًا، تحت عيونهما رعايةٌ ناعمة، ودفء خفيّ يلفني كما تلف الأم طفلها عند المساء. كانتا ترقبان حركاتي، وتحرصان على أن أصل إلى المطار كما يساق الحمل الضائع في وحشة الليل إلى مرعى آمن. وأنا الذي جُبْتُ خلال العطلة في أوربا، أعبر محطاتها ومطاراتها، لا رفيق لي إلا هاتفي يرشدني حينًا، ويضلني حينًا آخر… وجدتني اليوم بين ذراعي مالي، مطمئنًّا، مستسلما، كأن الضياع هنا لا يُخيف، وكأن المجهول صار حنوًّا.
تملّكتني الرغبة أن أظل بين يديهما. أن أتنازل عن يقيني، وأهيم في رعاية هذا الحنو الإفريقي الذي سكن قلبي. لكنني خشيت عليهما عناء السفر الطويل، وخشيت أن أكون ثقيل الظل، فاستجمعت إرادتي، ورفضت مرافقتهما. أصررت إلا أن أواصل الطريق وحدي، أصرتا إلا أن ترافقاني إلى المطار.
أخيرا، رضينا أن يتفرّق المسار: هما تعودان، وأنا أمضي نحو المطار. شكرتهما، وقلبي يعجز عن أن يسع الامتنان كله. ارتفعت عيناي إليهما ممتلئتين باعتراف خالص، كأنني أقول لهما: في هذه الأرض الباردة وجدت فيكما دفئا إفريقيا.
في المحطة التالية نزلت الأختان، التفتُّ خلفي، أبحث عنهما، عبر النافدة، في آخر نظرة. كانتا هناك. واقفتين. ثابتتين. تنظران إليّ بثبات الأمّ حين تلوّح لابنها المسافر. لوحتُ بيدي، فلوحتا، ووجهاهما يشرقان بابتسامتين تنبعث منهما حرارة إفريقيا. دفء مالي غمرني في جليد السويد وضبابها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. Need top-notch roof installation in Lancaster? Roof Installation Pros delivers professional services with a skilled team ready to handle all roof types. Their work is reliable, durable, and adds value to your home—trusted by many for timely and budget-friendly roofing solutions.

  2. Searching for trusted roof installation in Lancaster? Roof Installation Pros provides expert services across all roofing styles. Their experienced team guarantees strong, lasting installations that enhance your home’s protection and market value. Excellent service, always on time and within budget.

  3. Need top-notch roof installation in Lancaster? Roof Installation Pros delivers professional services with a skilled team ready to handle all roof types. Their work is reliable, durable, and adds value to your home—trusted by many for timely and budget-friendly roofing solutions.

  4. Need top-notch roof installation in Lancaster? Roof Installation Pros delivers professional services with a skilled team ready to handle all roof types. Their work is reliable, durable, and adds value to your home—trusted by many for timely and budget-friendly roofing solutions.

  5. Searching for trusted roof installation in Lancaster? Roof Installation Pros provides expert services across all roofing styles. Their experienced team guarantees strong, lasting installations that enhance your home’s protection and market value. Excellent service, always on time and within budget.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى