actualite

في ظلال الحروف ..

المختار السالم

فكرتُ في رسْم لوحة عن النّار، إنها رغبة في الرسمِ لا تتجاوزَ حدود التخيل.. قد يكون مصدر هذه الرغبة التشكيلية كون أغلب الذين قابلتهم يشمتونَ في “القاطنينَ على طريقِ الدخانَ”.
بالنسبةِ لي لا يمكن لقاطني هذه المفازة ردّ الجميل للدخان.. فعبر ألف عام من التاريخ المدون والمرئي قامت الدخان بالمحافظة على الثروة الحيوانية للموريتانيين خلال الشتاءات التي لا ترحم.. لقد كانوا يدفئون حيواناتهم بالدخانِ، وكانوا يجعلون الحطب يحترق بطريقة ينتج بها أكثر كمية من الدخان وأقل كمية من النار.
ذلك أمرٌ أوحي إليَّ بأنَّ هناك ألفَ سبب يجعلُ النار تشيب قبلَ أن تخلف أي فعل ناضج.
النار كائنٌ مثير في ثقافاتِ جميع الحضَاراتِ.. هكذا كانت منذ الشرارة الأولى أمام السلفِ.. لعل سرّ النار لم يكتشف عبر ملايين السنين.. يقال إنها طفلة فلكية عمرها الأرضيّ مليونا عام فقط. وإنها لعبت دورا غرائبياً في سرعة تطور الإنسان. الإنسان الذي خسر مع التفاحة وربح مع النار. النار ليست دائما نخباً في كأس معاقرة المعنى. هناك حظٌّ عاقر ونار محظوظة، هناك عود يحترق ناثراً بخوره في الأرجاء، وهناك عود ناي ينثر لحنه.. لا معنى في الفراء، فليخترْ كلُّ لنفسهِ يضيق أو يوسّع! “اللامنطق منطق واللافعل فعل”.
لقد تاجر الناس بالنارِ، كما تاجروا بالصهيل وكما عزفوا الصليل في كل وريد.. وهم بعد هذه التجارةِ تركوا المتنَ لأنَّ الهامش يصبح كلّ شيء إذا كان هامش ربح.
لسان النار بليغ حتى بعد أن يترمدَ. إنهُ، أيضا، أسرعُ مُطْفِئ للنظراتِ.. إنه لا يعبأ بحسٍّ جفنيٍّ ولا آخر حَوَرَيٍّ.
حذراً من لسانِ النّار؛ ينحتُ “الميْمي” في الرّمادِ.. لا يهمُّه غير الفنّ وهو لن يشكو البلاغةَ إن خطبت الريح في تماثيل الرّمادِ.
سوف يعودُ لحظةَ رشدٍ ويزْرع السنابل لتلغ فيها المناجل، ويحمل كفيه إلى ذمّةِ هاوية يثني عليها بقدر ما كانتْ سحيقة.
كما تدمنُ الكواكب غلطةَ الغروبِ، يلجأ “الميمي” إلى القصيدةُ لأنها تخفي حزن صاحبها ولو أنها تنشره فقرةَ صمتٍ بين الأناشيدِ.
بالنّسبة له نبلُ النّارِ بعدَ القبسِ ليس إلا رياء مدخنة.
الكَيُّ طلْسَم النّارِ. فهل يفرقُ القبسُ بين الوجوهِ!
لا ندرة للماء إلا في الوجوهِ! فهل على “الميمي” أن يُفسِّرَ ما “تـطَـوْفـنَ” عليه فهمٌ عندما تبطشُ النار بالفراشاتِ كما تبطش الريح بالشّموعِ، الأولى لأنها اعتنقت عقيدة الضوء، والثانية لأنها أشهرتْ لسانها في وجه الظلامِ.
لقد عدلتُ عن رسْم لوحةٍ للنَّارِ حتى لا يصطلي عليها إطفائيٌّ لا يميِّـز بين الألوانِ. بديلاً عن ذلك قررتُ رسمَ الحمامِ لأعرّفَ الصقورَ بخصالهِ التي سنَّها الريش عبر السُّهُـوْبِ.
ذات يوم وكنتُ خارج الديار، قال لي رسامٌ قادم من السهب الآسيوي إنًّ كلّ صُقُور العالم لا تـزنُ حمامةً مغوليةً واحدةً.. فيا راسمَ النار دجِّـنْ لحظةً شهباء في معصم الزمن!


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب” (الرسمية)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى