ونحن بين الرحمن الرحيم ..
أ. أحمد جاه

الرحمن الرحيم اسمان لطيفان من أسماء الله الحسنى يتجلّيان بالفيوضات الرحمانية، ويتدفّقان من نوافذ اللطف العُلْويَّة، تصاحَبا بتكرار عجيب في القرآن الكريم: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ 114 مرة.. ليدقّا ناقوس التنبيه ويدعُوان إلى التدبّر والتفكير عددَ تلك المرات ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ …
لا نغوص في متاهات اختلاف المفسرين حول أوجه الخلاف بين اللفظين دلالة وعُمقا، بل نكتفي بما اتفقوا عليه من أن الرحمن على وزن فعْلان الدال على الامتلاء والحركة، وأن الرحيم على وزن فعيل الدالّ على الثبوت والدوام. وخلُص بذلك سلفُنا السناغلةُ المعلِّمون باللغة الولوفية بترجمتهما كما يلي:
الرحمن : “كِيْ يَرَمْ امْبُولِيمْ وَا أَدُّنَهْ” kiy yërëm mbooleem waa adduna
الرحيم: “كِيْ يَرَمْ جُلِتْيِ ﭼَأَلَاخِرَهْ” kiy yerem jullit yi ca allaaxira
فكلمة الرحمن تشمل جميع المخلوقات وتعمّهم بعدالة صارمة تسوّي بين المسلم والكافر والصالح والطالح والسنغالي والأجنبي والأبيض والأسود. تسوّي بين الجميع على قوانين كونيّة لا تحابي؛ تلك القوانين التي يصوغها القرآن ـ غالبا ـ ويُصدِّرها بلفظ “من” ﴿من جاهد فإنما يجاهد لنفسه﴾ .. ﴿فأما من أعطى واتقى … وأما من بخل واستغنى﴾ .. ﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره﴾ .. ﴿من يعمل سوء يجز به﴾ قوانين تتميّز بالسببيّة وتدعو إلى اعتبار النتائج والمآلات، وتنظِّم قواعدَ الكسب في المغنم والمغرم ﴿كلّ نفس بما كسبت رهينة﴾ في الدنيا وفي الآخرة!
نعم، ذلك لأن الله وفّر للجميع أدوات الكسب ووسائله ﴿ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين﴾ .. ﴿وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها …﴾
وكأن المسلمين اليوم يتجاهلون هذه المسطرة المستقيمة، ويتوقّعون أن يجور الله لصالحهم، ويحيف على غيرهم في حكمه الدنيوي ويجرّد وظيفة الرحمان عن قيمته القانونية، وعدالته الحياديّة؛ وبالتالي يهملون أسباب السماوات والأرض، ولا يبالون بالتعاليم القرآنية في هذا الصدد عندما يحكي لنا قصّة الملِك ذي القرنين ﴿إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كلّ شيء سببا فاتبع سببا﴾
إن اتباع السّبب بعد اقتناصه مباشرة ـ كما يرشد فاء التعقيب هذه ـ هو الميزة التي يسّرت لهذا المَلِك، ذلك التمكين المشهور في الأرض .. وقد استمرّ على اتّباع الأسباب ﴿فاتبع سببا﴾ .. ﴿ثمّ اتبع سببا﴾ اتخذ اتباع السبب منهجا مطّردا وديدنا راسخا كما في تلك القصة الجميلة المُوحية.
أما نحن ـ المسلمين أو المدّعين الإسلامية ـ نهمل الأسباب ونتّهم اسم الرحمن.. لا نتّخذ أسباب العلم النافع الملبّي لحاجات الدنيا من هندسة وتكنولوجيا، وتقانة، وإنتاج، وكيفيات تفعيل روح الفريق ومتطلّبات التجدّد المستمر ومناحي التجديد المُبدع .. نتغافل عن أسباب الحضارة والتّقدّم حين ندّعي الخيرية، متغافلين أنّ “خير الناس أنفعهم للناس”
نلصق الإبداع وحسن الاختراع إلى “تُبابْ” ونفرح جزلا بحسن استخدامنا ما اخترعوه.. ونفتخر بإصلاحنا خللا فيما ابتكروه من آلة أو جهاز .. و الإبداع والاختراع أو قُل الاكتشاف نعمة ربّانية أودعه العقلَ البشري دون استثناء إفريقي أو زنجي. بل يحوم الاكتشاف بين أجنحة الرحمن في العالَم ويستجيب لمن دعاه إذا دعاه.
وكأن الآخرين (من تُبَابْ ويَابَانِيّ…) دعوْه باتباع السبب، ودفعناه، نحن المسلمين، بل حاربناه بإهمال السبب؛ فلا نكتشف ولا نسعى إلى الاكتشاف الذي يدعو إليه قوله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق﴾.. ثمّ نعيب زماننا والعيب فينا ونركب المحيط إلى “بارْسا” فتُودي بنا الأمواج إلى “البرزخ” وتسمح لقليل منا أن يصل إلى حيث الحضارة والتقدم والحقوق.. تاركين وراء ظهورهم حيث لا حضارة ولا تقدّم ولا حقوق، أستغفر الله، تاركين حيث ضُيّعت أسباب الحضارة والتقدم والحقوق..
نحصر الواجب الشرعي ـ غالبا ـ في فروض الأعيان؛ بينما فروض الكفاية أولى بالعناية الجماعيّة وأرقى في العبادة وأرضى لرب العباد وألصق بالرحمانيّة؛ لما تقتضيه من المخالطة و”المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” ولما تقتضيه فروض الكفاية من تخطيط وتنسيق وتفعيل في الآليات والمنظّمات .. كما في تعميم التعليم، وضمان العلاج للمرضى، وإقامة العمران وهندسته، وزراعة النشويات والبروتينات (الفلاحة والرعي) ليكون تعليما جيدا وعلاجا شاملا وعمرانا عصريّا وزراعة كافية…
أما فروض الأعيان من تصحيح الإيمان والصلوات الخمسة … فمن مقتضيات الرحيم ومتطلباته لمن أراد دوام الرحمة في مسيرة الحياة الممتدة إلى ما بعد الموت، حيث جنات النعيم والنعيم المقيم؛ فالالتزام الروحاني بالعبودية المطلقة، واستجلاب تجليات اسم الرحيم بالترحّم المطلق، يشاركان في تغذية الروح وإمداداها لتحيى حياة طيبة في الدنيا بالسكينة، وفي الآخرة بنضرة النعيم …حيث البقاء السرمدي…
فهناك، في تلك الدار؛ تتمثّل العدالة الإلهية التي تقيس صلاح الباطن وسلامة القلب وطيب النفس ﴿.. يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾.. ﴿يوم لا يغني مولى عن مولى…﴾ ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ هناك يصدق قوله تعالى: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون﴾
فتجليات اسم الرحمن ماثلة في ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به﴾.. كما يتجلّى اسم الرحيم هناك في الآخرة، يوم ﴿يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم﴾ بالحساب والثواب: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره﴾.. وبهذا التوازن القويم نحيا بين تجليات الرحمن الرحيم وإلا سنعيش عورا في التصوُّر وعرجا في السلوك.
أحسنتم بارك الله فيكم