كتشف أحدُ أصدقائنا أنَّ شخصًا اطّلع على منشورٍ له رائعٍ جذَّابٍ، فتلفّتَ يمينًا وشمالًا، وأخفى صدى خطواته كالهرّ الصّائد، حتَّى أمنَ الرَّقيب والنّاهي، فاختطفه إلى صفحته، وحذف اسم الصّديق الذي ذيَّل به منشورَه، ثمَّ أذاعه للأصدقاء وهو يحسب أنَّه أحسن صنعًا، ويحسب أن لن يكتشفه أحدٌ، ولم يعلم أنّ مدح النّاس له: (سلمت يداك، أحسنت، أروعت، أبدعت) معرّةٌ وعارٌ وعيبٌ، ثمَّ كان ما كان! وقد أذكرتْني هذه الحادثة الجديدة حادثةً قديمةً أليمةً طريفةً تجرَّحتُ بتجربتِها، وأضحكتني أيضًا؛ فقد وقفتُ ذات يومٍ على أنَّ أحد الأصدقاء لم يكن له عملٌ سوى انتظارني في قارعة الطّريق، حتّى إذا جئتُ ونشرت ما عندي من زهوري وزهور العلماء الذين أقرأ لهم، نقلها ليغرسها في حديقة صفحته (بل صفحتي الثّانية إذا صحّ التّعبير) بلا عزوٍ ولا نسبةٍ، والذي آلمني أكثر أنَّه كان ينقل كلام شيخنا العلّامة الجليل محمود محمّد شاكر بلا نسبةٍ أيضًا، وقد غاظني هذا الأدب الذّميم غيظًا تمعَّر منه وجهي، وأوشك أن يفقدني صواب عقلي في معالجة الأشياء؛ وذلك بأنّ شيخنا أبا فهر أفنى كلّ حياته وهو يحارب السَّطو والسّرقة لأفكار النّاس وكتبهم وأبحاثهم، فكيف إذا أتى متعالمٌ لابسٌ ثوب الزُّور والدّعوى، ليأخذ كلامه منسوبًا إلى نفسه كأنّه مبتكره وكاتبه؟ لكنّني كتمت الألم والغيظ، ثمّ سألتُه: لماذا تسرق منشوراتي بلا نسبة؟ فأجاب: (أنت – يا أستاذ – لا تنشر إلّا الخير، وقد أردت أن أعينَك عليه!) فلم أتمالك من الضّحك الذي أخفيته عنه حتّى لا يغترّ بجهله، ثمَّ أمرته بحذف ما سرقه عنّي، وعن شيخنا محمود شاكر، فحذف بعضه، ثمّ أبى أن يحذف سائره، فأوعدتُه الحظرَ علَّه ينتبه من غفلته، ويؤوب راشدًا، فما كانت فتنتُه إلّا أن قال ما أنقل معناه: قد حاولتُ كثيرًا أن أغلق صفحتي هذه، وكنت أنت سبب امتناعي عن ذلك؛ لأنّني أستفيد من صفحتك كثيرًا، فاعلم أنَّك إن حظرتني، فقد عجَّلت بخروجي من الفيسبوك للأبد، والسّلام عليك! الحقّ أنَّ ظاهرة السّرقة أمرٌ موجودٌ منذ قديم الآباد، ولم تزل مستمرَّةً مأسوفًا على استمرارها إلى أيّامنا الحاضرة، والسَّرقات الأدبيّة بين الشّعراء والكتّاب معروفة لمن قرأ شيئًا في النّقد الأدبيّ، ولكنَّ هذه الظّاهرة لها تأويلاتٌ، وتوجيهاتٌ، وفيها فرقٌ وكلامٌ كثيرٌ ليس هنا محلّ تفصيله، إلّا أن يكون الأمر كما يفعل بعض من لا خلاق لهم من الحياء والدّين، فيسرقون فصولًا كاملةً من كتب النّاس ليدرجوها في كتبهم، فهذا أمرٌ ظاهرٌ لا يحتمل وجهًا غير وجهٍ واحدٍ = هو ضعف الدّين، وقلّة الأدب، وحبّ التّشبُّع بغير المعطَى، فلنعدْ إلى قضيّة (الفيسبوك)، وهي هيّنةٌ جدًّا، وسهلةٌ جدًّا، لولا حبّ الظّهور الزّائف المتفشّي في هذا الزّمان، فإليك بيان القضيّة. لـمّا أنشأ منشئ الفيسبوك فضاءَه مع أعوانه، وضع فيه خاصّيّةً معروفةً لكلّ مرتادٍ لهذا الفضاء، هي خاصيّة (المشاركةshare/partage/)، وكأنَّه أشار بهذا الصّنيع إلى أنَّك ستكون صديقًا مع النّاس، وأنَّهم قد ينشرون شيئًا يُعجبُك، وأنَّك سترغب بعد الإعجاب في أن تشارك أصدقاءك في هذا المنشور المعجب قصدَ الإفادة، فاختصر لك الطّريق بالضَّغط على زرّ المشاركة، فكان هذا هو منطق الفيسبوك في التّعامل مع أيّ منشور يعجبُ صديقًا أو متابعًا، ثمّ يرغب في أن يطّلع عليه أصدقاؤه، ومن خالف هذا، وخرج عنه، فقد خالف وخرج عن منطق المنشئ المعروف اسمُه. هذه واحدةٌ، وأخرى أنَّ صفحات النّاس بمنزلة بيوتهم، وبداهة العقل تقتضي أنَّ كلّ ما في بيت الإنسان إنَّما هو ملكٌ له حتّى تقوم علّةٌ ظاهرةٌ تصرف المعنى عن هذا الأصل؛ بأن ينسب الكلام إلى غيره مثلًا، أو يضعه بين قوسين كما يفعل بعض النّاس (وهذا سيّءٌ لأنّه موهمٌ)، أو يؤمئ إلى أنّه (منقول) كما هو شائعٌ (وهذا أخفُّ ضررًا إن كان مجهول القائل)؛ أمّا ما دون ذلك، فكلّ ما ينشره الإنسانُ على صفحته فهو معدودٌ أصالةً أنّه من بنات أفكاره، وصنيع إبداعه، سواء ذيَّله باسمه أو لم يذيّله به، فإن كتب اسمه تحته، فقد زاد في اليقين، وقطع الطّريق أمام الشّكوك والرّيب. ولـمّا كانت رغبة بعض النَّاس أن يطّلع أكثر أصدقائهم على ما يُعجبُهم كما يطّلعون على منشوراتهم الأصليّة؛ صحَّ لهم أن ينقلوا كلام غيرهم إلى صفحاتهم منسوبًا إليهم بالإشارة إلى الصّفحة إن لم يكتب النَّاشر اسمه، أو منقولًا مع اسمه إن كانت عادته أن يكتب اسمه تحت منشوراته، وأظنُّ هذا واضحًا بلا خفاءٍ، وجليًّا بلا غموض ولا إبهام. فمن خالف قانون المشاركة، أو خرج عن قانون النَّقل مع النّسبة؛ عُدَّ سارقًا صرفًا وإن كان المنقول ثلاث كلماتٍ، ومن العجب أنَّ كثيرًا من النّاس قد سقطوا في هذه الهاوية بلا عاصمٍ من الأدب، ولا وازعٍ من الدّين، والأعجب أنَّ بعضهم يطّلعون على كلامك، وقد ذيَّلته باسمك، فيحذفه، ثمّ يكتب تحته: (منقول)، والأغرب من ذلك كلّه أنَّه يحذف الاسم، ويشطب (منقول)، فينشره كأنَّه العمل الذي سهر عليه، وفكّر فيه، وأجهد نفسه في ترتيب كلماته، ورصف ألفاظه، وتسوية منطقه، وهذه بليّة منكرة كلّ الإنكار. اعلم أنَّ سرقة منشورات النّاس لن تزيدَك إلّا سفالةَ منزلةٍ يوم ينجلي الغبار، ويُعلم أفرسٌ تحت أم حمارٌ، واعلم أنَّ تلك السّرقة لن تزيدك إلّا سقوطًا في عين الله العليم البصير، فإن استفدت فشارك، وإذا نقلت فانسب، ولن يضرّك ذلك فتيلًا، ولا قطميرًا، ولا قلامةَ ظفرٍ واحدٍ. أمّا الذين يطالبون بالإشفاق على هذه الطّائفة، فهو إشفاقٌ كاذبٌ لا تأويل له غير قِصَر النّظر، فلا رحمة في الظّلم والعدوان على أفكار النّاس، وليت هؤلاء يعلمون التّعب الذي يكابده الكاتب المجيد؛ أيظنُّونه يجلس في طرفة عينٍ، فيكتب، ثمّ يخرج للنّاس هذا الكلام الجميل؟ إنَّ الكاتب المجيد لا يقلّ تعبه عن حامل الأثقال، بل هو أشدُّ تعبًا ونصبًا، فهو يقضي وقتًا غير قليلٍ، ويبذل جهدًا غير ضعيفٍ في ترتيب الأفكار، واختيار الكلمات، وانتقاء الصّورة والأسلوب، ومن ظنّ هذا أمرًا هيّنًا فهو جاهلٌ بسرّ الكتابة جهلًا مركَّبًا لا بسيطًا. وأمّا الذين يقولون إنّه خيرٌ، وسيجعله الله في ميزان حسناتك، فتجازوه، واغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزله، ووسّع مدخله، فقولهم خفيفٌ ساقطٌ في ميزان العقل، وأخفُّ وأسقطُ في ميزان الدّين الذي نعتنقه؛ فإنَّ الإسلام الذي نتعبَّد الله به؛ لا يبيح فعل الخير بسرقة ممتلكات النّاس وأموالهم، ولا يبيح فعل الخير بهضم حقوق النّاس. ألا إنّ حصاد القلم لهو أنفس الممتلكات، ألا إنّه لأوكد الحقوق لو كانوا يشعرون.
ماشاءالله الله يعينكم