Articles

مقال: د.محمّد الأمين جابي: أربعةٌ وستُّون عامًا في العلم والأدب

بقلم: محمد موسى كامارا

ينحدر محمّد الأمين جابي من سلالة علميَّةٍ كريمةٍ تناسل منها أدباء أفذاذٌ في مدينة طوبى الغينيَّة، وقد ولد صاحبنا عام 1952م في مدينة (كنديا) بغينيا، ولم يفتح بصره على الدّنيا حتّى هدهدتْ سمعَه قراءة والده العالم الشّاعر (الحاجّ باكاسو جابي)، وفتح الفتى الصّغير عينه المتأمِّلة على وفود العلماء والشّعراء؛ وهي تغشى بيت أبيه زرافاتٍ ووحدانًا، فوعى بذلك المرأى المؤثّر من معاني العلم والجدِّ ما وعى، فأقبل على أبيه الحنون الذي كان بارعًا في الفقه والتّفسير والقريض؛ ليتلقّى على يده مبادئ اللّغة العربيّة والعلوم الشّرعيّة، ويستمع إلى ترانيم شعرِه على كلّ أحيانه، ففتق ذلك أكمام ذكائه المتوهّج، ونفخ الرّوح في نبوغه المشتعل، فانفجر ينبوع شاعريّته انفجارًا مبكّرًا، وقرض بالسّليقة أوّل قصيدةٍ مقفّاةٍ في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو في الثّالث عشر من عمره، وفي ذلك يقول (الرّمل):
ونظمتُ الشّعر لا أدري بـما ** قاله فيه الخليل ورأى

درس على والده أمّهات الكتب المعروفة في اللّغة والأدب أيّامئذٍ، وكان من شدّة ذكائه؛ أنّه إذا درس الفصول الأولى من تلك الكتب، أكمل باقيها بنفسه مستوعبًا لأسرارها ومعانيها، ومن ذلك أنّه لـمّا توقّف مع والده في مقامات الحريريّ على المقامة الخامسة (الكوفيّة)؛ استعان بشرح الشّريشيّ، وتفهَّم سائر المقامات معتمدًا على نفسه، وقد طالع في هذا العمر المبكّر – مكتفياً بنفسه – كتابيْ: (أيّام العرب في الجاهليّة والإسلام)، و(تحت راية القرآن).
عبَّ صاحبُنا من هذا المعين الطّيّب، ثمَّ التحق بالمدرسة (الفادقيّة) في تلك المدينة التي وُلد فيها بغينيا، فوضعوه مع لداته وأترابه في فصلٍ واسعٍ واحدٍ كان مقسّمًا بين الصّغار والكبار؛ لأنّه لم تكن الدّراسة في ذلك الزّمن مصنّفةً على المراحل والمستويات التي نشهدها في أيّامنا الحاضرة، وحدث في اليوم الذي دخل المدرسة أن كتب المدرّس للكبار مسألةً من كتاب (فقه اللّغة وأسرار العربيّة) لأبي منصور الثّعالبيّ، ثمّ سألهم عن معناها فأعياهم البيان عنه، فإذا بالصّبيّ الصّغير يرفع يدَه ليجيب على السّؤال الذي تكسّرت على صخرته سهام عقول الكبار، فينهرونه مستخفّين بسنّه وعقله، ومتوهّمين عدم قدرته على الإجابة، فيأذن الشّيخ المرحوم (فودي موسى جابي) للصّبيّ بأن يقول ما عنده في المسألة، جابرًا لخاطره كيلا يُحبط، ومجرّبًا لقدرته لئلّا يُظلم، فينطلق كالسّهم النّافذ في كشف شبهات المسألة وجلاء غوامضها، فيفغر التّلاميذ أفواههم متعجّبين من هذا الصّنيع الخارق للعادة، ثمَّ ينقل الأستاذ صاحبنا من قسم أقرانه ليجلسه في قسم الكبار!.
وبعد تخرُّجه في هذه المدرسة، تصعّدت به همّتُه القعساء إلى طلب مزيدٍ من العلم، وتاقتْ نفسه إلى أن تأخذ حظَّها من الدّراسة الجامعيّة، فيمّم وجهه، بنفسٍ مشوّقةٍ، وقلبٍ لهيفٍ، نحو المملكة العربيّة السّعوديّة عام 1977م، حيث التحق بمعهد اللّغة العربيّة في جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة، وحاز منه شهادة الثّانويّة عام 1979م، ثمَّ حفزته همّته إلى جامعة الملك سعود في العام نفسه، فدرس فيها البكالوريوس والماجستير في علم النّفس والتّربية. وبعد دراسته للماجستير، تعاقدت معه الجامعة الإسلاميّة بالنّيجر عام 1989م، فذهب إليها مدرّسًا محاضرًا، وصرف جهوده إلى التّدريس والتّأليف، وكان ذلك سببًا في تأخُّر التحاقه بدراسة الدّكتوراه، ولكنّ ذلك لم يثنِه عنها، فسعى واجتهد حتّى حصل هذه الدّرجة العلميّة في علوم التّربية من جامعة تونس عام 2013م.
أمّا جهوده العلميّة، فقد استولتْ على الشّعر والنّثر؛ فقد ترك ديوان شعرٍ يحوي ألفًا ومئةً وثمانية عشر (1118) بيتاً، في سبع وثلاثين (37) قصيدةً، وكذلك خلف قصيدةً (1) مطوّلةً في ستّمئةٍ وثلاثةٍ وستّين (663) بيتًا، وهي (مقصورة المنفى) التي صاغ فيها عصارة خبراته في العلم والمعرفة والتّاريخ والحياة، وتناثر بعض شعره في غير هذين الموضعين، وقد أحصينا منه في أحد كتبه خمس (5) قصائدَ في (83) بيتًا، ثمَّ تتبّعنا مواطنَ أخرى، فألفينا له (22) قصيدةً ومقطّعة في أربعمئةٍ وأربعة عشر (414) بيتًا، فكان المجموع (2278) بيتًا في خمسٍ وستّين (65) قصيدةً ومقطّعة ونتفةً. وقد فصّلنا أبعاد هذا الشّعر، ودرسنا أغراضه، وحلّلنا بحوره في رسالتنا في الماجستير، بعنوان: (الشّاعر الغينيّ محمّد الأمين جابي: حياته وشعره – دراسةٌ وصفيّةٌ تحليليّةٌ).
وأمّا جهوده النّثريَّة، فقد وضع رواية نفيسةً بعنوان: (فَنْتَا عذراء كوناكري)، وتقع هذه الرّواية في ثلاث مجلّداتٍ ضخمةٍ، وتتألّف من أربعمئة وستٍّ وأربعين (446) صفحة، وإلى جانبها في النّثر ترك كتابه القيّم: (روائع آل كرمخوبا في فوتا طوبى ما بين 1805م و2007م)، وقد رصده لدراسةٍ تأريخيّةٍ وأدبيّةٍ للحركة الأدبيّة في مدينة طوبى في غينيا، فجمع وحقّق فيه أكثر من مئةٍ وخمسين (150) قصيدةً عربيّةً لأكثر من أربعين شاعرًا، وغطّت الدّراسة فترة قرنين من الزّمان. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هؤلاء الشّعراء الأربعين كلُّهم من أهل قرابته إلّا قليلًا، وهذا يدلُّ على أنّه من بيتٍ عريقٍ في االشّعر، وعلى أنّ دولته (غينيا) عرفت الشّعر العربيّ منذ قرنين من الزّمان أو يزيد.
وكذلك ألّف الدّكتور محمّد الأمين جابي كتاب: (صفات الرّحمن في آيات القرآن)، فأقام فيه دراسةً شاملةً، وتحليلًا دقيقًا لآيات الصّفات في القرآن الكريم، ثمّ أجرى إحصاءً كمّيًّا ونوعيًّا لها، وأنهى تأليفه عام 2002م، ويقع في خمس مجلّداتٍ، في أكثر من ألف (1000) صفحة، وهو كتابٌ نفيسٌ جدًّا يستحقّ البحث والدّراسة؛ لأنّه يمثِّل نظرةً جديدةً مخالفةً لسنّة العلماء السّابقين في دراسة صفات ربّنا تعالى جدُّه.
وفي هذه السّبيل ألَّف كتاب: (التّقابل في القرآن الكريم: دراسةٌ تحليليّةٌ للآيات المتقابلة العناصر)، وهو مؤلّفٌ رائعٌ نافعٌ متّصلٌ بالكتاب السّالف الذّكر، تناول فيه دراسةً تفصيليّةً لأوجه التّقابل الموجود في القرآن الكريم، مقدِّمًا فيها رؤيةً جديدةً للبلاغة القرآنيّة، ومعالجًا موضوعَ التّقابل في القرآن الكريم، وهو التّناسب بين النّصوص القرآنيّة على أساس التّقابل بين عناصرها، وقد ركّز في التّحليل الهندسيّ لهذا التّقابل، وما يترتّب عليه من لطافةٍ في العبارة، وجمالٍ في النّظم.
ونذكر في هذا الصّدد رسالته في الماجستير عام 1988م، بعنوان: (أساليب التّنشئة الأسريّة المخدّرات في المجتمع الغينيّ)، وأطروحتَه في الدّكتوراه عام 2013م، بعنوان: (دراسة لمدى شمول الأهداف في برامج التّعليم الابتدائيّ الغينيّ للمجالات المعرفيّة، والوجدانيّة، والنّفسحركيّة)، مع مقالاتٍ كثيرةٍ في الأدب، والتّاريخ، والشّريعة، والفكر نشرها في مجلّة (حوليّات الجامعة الإسلاميّة بالنّيجر) وغيرها من المجلّات.
هذا موجز أربعةٍ وستّين عامًا في العلم والأدب، قضاها محمّد الأمين جابي في حياةٍ حافلةٍ كانت بهجةً للعقل والقلب. وفي صباح يوم الأربعاء السّابع والعشرين (27) من يوليو عام 2016م، دعي هذا العالم الجليل إلى ربّة فأجاب، بعد أن قعدَ به المرض أيّامًا، وقد رحل عن دينا النّاس موصوفًا بالنّبل والعلم والفضل، وصدق فيه قوله (الكامل):
إنّي امرؤٌ ذو مبدأ ورسالةٍ … سامي المكانةِ واسعُ الإمكانِ
لا أشتري جاهاً ببذل كرامتي….. إنّ الكرامة حُلّةُ الإنسانِ
حرٌّ بفكري باحثٌ بسليقتي …….والقولُ أرفضُه بلا برهانِ
من بيت علمٍ في الأصالة موغلٍ..عالي المكانةِ سامي الأركانِ
أمّا بعدُ؛ فإنّ الذي يجب أن نختم بلفت الأنظار إليه، هو أنّ تلك الإنتاجات العلميّة القيّمة؛ لم يُطبع منها شيءٌ إلّا كتاب: (التّقابل في القرآن الكريم: دراسةٌ تحليليّةٌ للآيات المتقابلة العناصر)، وعسى الله أن يوفّق لإخراج آثاره يدًا منفقة، ومطبعة ميسِّرة، وعقولًا مهتمّة ساهرة.

كاتب وباحث من غينيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫16 تعليقات

  1. hello there and thank you for your information – I’ve certainly
    picked up anything new from right here. I did however expertise some technical issues using this
    site, as I experienced to reload the web site many times previous to I could get it to load properly.
    I had been wondering if your web hosting is OK? Not that I’m complaining, but slow loading instances times will very frequently affect your placement in google and can damage your quality score if ads and marketing with Adwords.

    Well I am adding this RSS to my e-mail and could look out
    for a lot more of your respective exciting
    content. Ensure that you update this again soon..
    Escape rooms hub

  2. I seriously love your site.. Very nice colors & theme. Did you develop this web site yourself? Please reply back as I’m hoping to create my own personal blog and would like to learn where you got this from or what the theme is named. Many thanks!

  3. That is a great tip particularly to those fresh to the blogosphere. Simple but very accurate information… Many thanks for sharing this one. A must read article!

  4. I was extremely pleased to find this website. I need to to thank you for your time due to this wonderful read!! I definitely appreciated every little bit of it and I have you saved to fav to see new stuff in your site.

  5. Having read this I thought it was extremely informative. I appreciate you taking the time and effort to put this informative article together. I once again find myself personally spending a significant amount of time both reading and posting comments. But so what, it was still worth it.

  6. I’m extremely pleased to discover this site. I want to to thank you for ones time due to this wonderful read!! I definitely enjoyed every part of it and I have you saved as a favorite to look at new information in your blog.

  7. I really love your blog.. Excellent colors & theme. Did you build this web site yourself? Please reply back as I’m attempting to create my very own website and want to find out where you got this from or what the theme is called. Cheers.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى