مقال: في ظلال الحروف
المختار السالم
بيني وبين طبيعة “البطحة” الساحرةِ تخاطرٌ فذّ وفريد؛ أشعرُ أنّ حواس الإدراكِ تتغافلُ عن ذاتها لأنَّ حمولة اللحظة أفخم من ثَمرةِ الحسِّ وأثقلُ من جذرِهِ.. هل هناك ترجمة لصوت رقرقة الماء؟ أم تعبير يوازي صوت البلبل؟ وهل يُمكن للوردةِ أن توجز تاريخها مع العطرِ؟
على تلكَ التلال “الجرداء ظاهريا” ما يزالُ عُجبي من أمورٍ ذات أبعادٍ “غينيسية”.
فذات مرّة، أحْسَسْتُ روح العدمِ تلفُّ هذا الخلاء الفارغ. ولكنْ من فراغهِ، أدركتُ عالماً أكبرَ يُحيط بي.. فعن يميني قرية نَمل تجري فيها الأمور بخبرةٍ عمرها ملايين السّـنَواتِ، وعن يساري تتحرك ببطء شرنقة نحو مسواك ألقاهُ أحدهم ذاتَ مرور وربَّما كان رسالة حُب لم تصل، والآنَ ها هي الشرنقةَ تستودعهُ جلدها لتخرج فراشة بديعة ترفرف بروح أخَّاذةِ، صوتُ نقّار الخشب في مقام “اللَّــيّـن” ما يعني أنَّه ما زال في طبقةِ اللحاءِ، وعلى شجرة قريبة حدأة تراقبُ جنون الاحتراف البصريِّ لدى قرينها الـمُـندسّ بمخبئ موازٍ، وأمامي آثار خطّ خرافيِّ لـحَـرْدون يَـشقُّ طريقهُ على الرّملِ.. أعلى في الأفقِ صبايا مُزنِ كأنهنَّ جارات في حي عموري.
وذات مرة، عصفت الريح، وكان لا بدَّ من الشايِ فخبأتُ النًّار في مدخل جُحر يعود إلى مخلبيٍّ قدرت أنهُ جرو، ومع تلك الوضعية الاستراتيجية في مواجهة إعصار السَّمومِ، استدلَّ عليَّ صاحب “لعزيب”، ناولتهُ كأسا ساخنة فدلَّكَ جبينهُ بظاهرها وأفرغها في معدتهِ.. قلتُ مازحا: “لحا الله الدخان”. قاطعني متحدثاً عن تقريرٍ بثته إذاعة غربية يسخر من سمنة النساء الموريتانياتِ.. قلت له “لا تعبأ بهذه الحملة الـمُسَعَّرَةِ ضدَّ اللحم الأبيض الـمُـتوسِّطِ.. هذا لا يعنينا.. وهل يمكن أن تشكو العراجين ثقلَ ثَمرها، أو تشكو العينُ حورَها واتساعها!..
لا تهتمّ مطلاقًا لهذا “الإشكالِ التَّوسُميِّ” عندما تفكر جديا في الزواج، وأنت رجلُ لاحمٌ، اِطمئنْ.. فبهذا الريفِ كلّ امرأةٍ ذات وزْن فلكَيِّ، وأمّا نساءُ المدينةِ فلا نـَمَيْـرُهنَّ رصيفاً، لأنَّ أناقتهنّ بالنسبة لك نحافة معيبة، وعطرهنَّ بارود، وأظافرهنَّ سكاكين، وزينتهنَّ ابتذال، وأحاديثهنَّ عن البورصةِ والعملاتِ و”الـمُشبِّكِين”.
ثُمَّ؛ ومن لطف الله، أنا وأنتَ بالنسبةِ لَهُــنَّ كائنان مما قبل التاريخ، فأجسادهنّ تقشعرُّ عند النظرِ إلى أشباهِنا من البشرِ، ولسنا في نظرهنَّ إلا كائناتٍ ريفيةٍ مثيرةٍ للسخريةِ والشفقةِ والخوفِ والغرائبيةِ ومدعاة للاكتئابِ والكوابـيسِ.
ولتعلم أنَّ الرجل الذي يهمّ بنساء المدينة عليه أن “يتسوَّر” ويقرأ للمؤلفِ ليقتلهُ، ويتحيَّــز فطنة الذكاء الاصطناعي وخوارزمياتِ الجمالِ، ويحفظ طقوس معبد هوليود عن ظهرِ قلبِ، عليهِ أن يتقن الغَزلَ الأمُوجيِّ، ويصطفي من شعر “الهايكو” الأجْـنَبِـيِّ ما يقيمُ ركنَ الجرسِ.. ثمّ يتنكَّرُ لأول قصيدة “هايكو” في التّاريخ، عندما أقْـدَمتْ “النساءُ الموريتانياتُ السّميناتُ” على ابتكار “التبراع”، وكانَ ذلك بالتأكيدِ قبل أن يدخل “باشو” إلى “صومعة شجرة الـمَوز” في القرن السّابع عشر.
يا خازِمَ الدّخانِ لا تقلقْ.. انسَ ما سمعتَ فلنْ يُـطفِّفَ أهلُ البطحة” في وزنَ القصائدِ والنّساءِ..
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.