في مقابلة مع موقع “ريم آفريك” الأستاذ محمد سعيد باه : الإسلام والعربية من أهم خصائص المجتمع السنغالي
قال المفكر السنغالي الدكتور محمد سعيد باه إن الإسلام واللغة العربية من أبرز خصائص المجتمع السنغالي، مؤكدا في مقابلة مع موقع ريم آفريك إن انتشار الثقافة العربية والإسلامية في السنغال يعود إلى إرث تاريخي يزيد عمره على ألف سنة
ريم آفريك : مرحبا بكم دكتور محمد سعيد باه ..حدثونا عن الظاهرة الإسلامية الحديثة في السنغال ..عن تشكيلاتها وآفاقها
محمد سعيد باه : شكرا لكم على هذه السانحة وعلى ما تقومون به من جهد تنويري .عموما يمكن وصف الظاهرة الإسلامية في السنغال بأنها أبرز سمة لهذا المجتمع وذلك في بعدين أساسيين:
التيار الإسلامي الإصلاحي الذي انطلق قبيل رحيل الاحتلال الفرنسي وظل يتنامي في فعل تراكمي استقطب جهود أجيال تعاقبت في حمل المشعل ومحاولة تصحيح المسار
أما البعد الثاني فيتمثل في التيار الصوفي الذي شهد حالة حادة من التحول ومع ذلك لا يزال يشكل دائرة واسعة نجد فيها أطيافا متنوعة من المسلمين، مع ما يؤخذ عليه فإنه يظل مكونًا للظاهرة الإسلامية السنغالية لدرجة أنه يمكن اعتباره من أخص خصائص الوجود الإسلامي في السنغال مع تسجيل ملاحظة جوهرية وهي أن هذا المكون يشهد تنامي توجه إصلاحي داخلي يتوقع أن يحدث انعطافًا سيكون له تأثيره البالغ في المجتمع السنغالي خلال الفترة القليلة القادمة.
أما الصيغ التي يتبلور من خلالها التيار الإسلامي الإصلاحي فمتعددة وأبرزها تبني مشروع تسعي قيادته من خلاله إلى إعادة صياغة الواقع العام وفق مقياس فكري يتسم بالأصالة في التربية والتعليم في القيم الضابطة لحركة المجتمع وفي تصحيح النظرة إلي مفهوم وتمظهرات الديانة وفي ميدان الفعل السياسي…
فإذا انتقلنا إلي الآفاق وجدنا الصورة كالآتي:
انطلاقًا من التقدم الذي أحرزه التياران في ميدان التربية وإحياء حركة المسجد وتطوير التعليم وترميم الهوية الإسلامية، يمكن توقع إعادة تمركز القيادة الإسلامية في قلب الدولة خلال عقدين من الزمن شريطة أن يحافظوا علي الوتيرة الحالية من الفعل المتنامي وأن يحافظوا علي المنجزات وأن يحسنوا إدارة المعركة مع الخصوم في الداخل والخارج والأهم من كل ذلك أن يحسنوا قراءة الواقعين الوطني والعالمي.
والعنصر الآخر في استشراف المستقبل يتمثل في القدرة على التعاطي مع التحولات الحادة التي نري أن المجتمع السنغالي مقبل عليها في الميدان الاقتصادي بسبب الفرص الجديدة وفي الميدان السياسي حيث نشهد ميلاد جيل جديد من القيادين وأخيرا يتوقف وضع الظاهرة الإسلامية علي قدرة من يدفع بها علي ترميم الوضع الداخلي للتيار الإسلامي الذي يفتقد اليوم الحد الأدني من التجانس، ليس علي المستوي الفكري طبعا، وإنما في حشد ما لديه من طاقات هائلة وتجميعها أو صهرها في بوتقة التقارب.
ريم آفريك : ماهي آفاق العلاقة بين السلطة والتيار الإسلامي في السنغال بشقيه الصوفي والصحوي الجديد؟
محمد سعيد باه : انطبعت هذه العلاقة حتي الآن بالاستقرار ويمكن الحديث عن التقارب المحمود منذ وصول الرئيس الحالي السيد مكّي صال لسدة الحكم، وكان الانفراج قد بدأ مع سلفه السيد عبد الله واد الذي ضيع التيار الإسلامي الإصلاحي فرصا ذهبية كثيرة في عهده لتحقيق مكاسب كانت ستنضاف إلي ما لديه من أرصدة.
يجب أن نشير هنا إلي أن هذا الانفراج قد جاء بعد فترة من التأزم في عهدي سنغور وعبدو جوف حيث كان موقف الإسلاميين المتشدد من علمانية الدولة وبروز تيار التغريب مصدرًا لهذا التجاذب فضلا عن أبعاد تاريخية أخري لا مجال هنا لإيرادها.
فإذا استطاع الإسلاميون المضي في الطريق الصحيح الذي يتطلب منهم القيام بمراجعة جذرية في التصورات وطريقة التعاطي مع الدولة ومع الشأن العام فسينتقلون من حالة الهامشية التي طالما اشتكوا منها إلي رافد من تلك الروافد التي تمد الدولة بما تحتاج إليه من كوادر وطاقات كما بدأت أمارات ذلك تتجلي في الظاهرة الإسلامية واستقطاب التيار الإسلامي، الذي كان يسيطر عليه المستعربون الذين أفضل وصفهم بحملة الثقافة العربية الإسلامية.
أما الآن فقد تعادلت الكفة وهاهي الكوادر المتفرنسة التي أمكن الوصول إليها في الجامعات والمعاهد نهاية الثمانينات تمثل اليوم ركنا أساسيا يمكن التعويل علي ما لديه من قدرات وما يحتله من مواقع متقدمة في أجهزة الدولة.
لكن هذا التفاؤل لا ينسينا حرج الموقف الحالي المتشابك مع الواقع الدولي الذي لا يزال يهيمن عليه خيار مصادرة الرأي والنظرة المتشددة تجاه التيار الإسلامي وخاصة إذا أخذنا في الحسبان وضع السنغال الحساس في السياق الجيو – السياسي العالمي وعلي ضوء ما تمور به المنطقة من أحداث جسام منذ اندلاع شرارة الفتنة في نيجريا وهي مرشحة للتفجر.
ومن المعطيات التي يمكن التعويل عليها هنا في تشخيص علاقة الإسلاميين بالسلطة السياسية أن الإسلاميين قاموا بدور مؤثر في المعركة الديمقراطية التي شهدها السنغال في العقدين المنصرمين ومن خلال ذلك راكموا تجربة سياسية غنية للسلطة السياسية موقف منها وهذا الوضع يلتقي مع ازدياد المنابر السياسية (أحزاب) ذات المرجعية الصوفية مع إمكانية حدوث تقارب بين التيارين حين تتغير القيادة الحالية ويصعد جيل أكثر انفتاحا علي المكونات غير الصوفية.
ريم آفريك :عانى إسلاميو السنغال خلال الفترة المنصرمة من فشل انتخابي هائل، ماهي أسباب تلك النتائج السيئة؟
محمد سعيد باه : من يرقب الساحة الإسلامية يلاحظ حتمًا بأن حالة التشرذم قد رانت عليها، لتمثل بذلك أعتي عقبة أمام التيار الإسلامي السنغالي، وهو ما يجعل كثيرا من المطلعين علي دواخل هذا التيار يعتبرونه قوة معطلة أو نعته بأنه يجتاز مرحلة السبات.
وبعبارة أخري فإذا نظرنا إلي الرصيد التاريخي الذي يملكه هذا التيار وإلي ما تحقق علي يديه من إنجازات معتبرة وإلي تحوله إلي ظاهرة شعبية متنامية، جاز القول بأن هذا التيار لو استطاع اجتياز عتبة التشرذم والالتقاء علي الحد الأدني من التنسيق والتكامل في الميدان ما وقفت أمامه قوة سياسية ولا اجتماعية في أي استحقاق سياسي أو في معركة فكرية أو اجتماعية.
هذه الحقيقة المؤلمة هي التي جاءت الانتخابات الأخيرة لتؤكدها حيث تراجع وجود التيار السياسي ذي المرجعية الإسلامية في البرلمان في حين تقدمت تيارات أخري بعد أن كان حزب حركة الإصلاح للتنمية الاجتماعية، علي سبيل المثال، ضمن المربع الأول للقوي السياسية الفاعلة طيلة أكثر من عقد من الزمن.
لكل هذا كان الحصاد مرا جدًا حين ركب الغرور الجميع فذهبوا إلي الانتخابات بأهواء متلاطمة فكانت الهزيمة منكرة وظني أن بعض التجارب قد اخترمت وقد تتجاوز الخسارة من خاضوا هذه التجربة لتترك آثارًا مدمرة علي بعض مكونات التيار الإسلامي نتيجة عدم التناسق الذي طبع قرارات معظم الأحزاب المحسوبة علي التيار الإسلامي التي شاركت في هذه المهزلة.
ريم آفريك : كيف ترون ظاهرة الاستعراب المتنامية في غرب إفريقيا وخصوصا في السنغال؟
محمد سعيد باه : إذا وظفنا المقايسة وتحدثنا عن الاستعراب مقابل الاستشراق فسأتحفظ علي المصطلح لأسباب كثيرة عقدية وتاريخية وواقعية.
وعليه سنتحدث عن هذه النقطة ضمن مفهوم أكثر إيجابية وأصالة ألا وهو وضعية الثقافة العربية الإسلامية في السنغال حالًا ومآلا من باب الاستقراء والاستشراف.
تتجلي هذه الحقيقة في البعد التاريخي الذي يتمثل في الإرث المعرفي الثقافي لدى الشعب السنغالي وبالأخص لدي المكونات التي تقطن الأجزاء الشمالية من البلاد والتي ثبت بأن معظمها قد عانق الإسلام منذ أكثر من ألف عام مع العلم بأنه قد وفد راكبا علي ظهر العربية، وبالتالي لا يمكن الحديث عن “الاستعراب” في السنغال مفصولًا عن الإسلام.
من أهم مؤشرات انتشار وتجذر اللغة العربية وحمولتها من الثقافة الإسلامية ما يلي:
التعليم الأصيل الذي ظل رافدًا لا ينضب ويوفر للمجتمع السنغالي ما يحتاج إليه في هذا المجال منذ قرون خلت، ورغم التقلبات التي عصفت به فلا يزال عطاؤه ثرًا سواء تعلق الأمر بالقرآن الكريم وفنونه من رسم وضبط وقواعد وأحكام القراءة من خلال مقرئ الإمام نافع المدني بروايتيه ورش وقالون وتخرج مجالسه المئات سنويًا، أم تعلق بالمجالس التي تدرس الفنون اللغوية ضمن مسطرة منضبطة إلي جانب الفقه المالكي وفنون مكملة يسمونها بالمتمات كالحساب والتفسير والأصول..
المجال الثاني يتمثل في المدرسة العربية الإسلامية الحديثة التي استطاعت الصمود في وجه الأعاصير وتحولت من خانة التعليم الحر إلي ما أسميه بالنظام التربوي الموازي للنظام التربوي التعليمي العام.
وفي الخط المقابل نجد سياسة الدولة التي تطورت كثيرا في السني الأخيرة تحت ضغط شعبي إيجابي قد تبدلت وجعلت الدولة توسع وعاء عرضها التعليمي ليتضمن اللغة العربية والتربية الإسلامية في المراحل الثلاثة بالإضافة إلي قسم اللغة العربية والحضارة في الجامعات.
وإلى جانب هذا البرنامج الذي وفرت له الدولة كل الإمكانات اللازمة من معاهد وكليات تكوين الأساتذة والمفتشين وإعداد المقررات التي تستجيب لمتطلبات الواقع، هناك معاهد ومدارس تحفيظ أنشأتها الدولة ضمن النظام التعليمي العام.
هناك محور الإقبال الشديد علي تعلم اللغة العربية في صفوف حملة الثقافة الفرنسية أو من نسميهم بالفرنكوفونيين وهو ما شجع علي فتح عشرات المعاهد المتخصصة في تعليم العربية للناطقين بغيرها مع التنبيه علي أن الدافع الأساسي وراء ذلك الإقبال ديني بالدرجة الأولي.
وأخيرا، ثمة عاملان متكاملان: الدور الذي يزداد أهمية للشباب الذين يتخرجون من الجامعات والمعاهد في العديد من الدول الإسلامية، وقد أخذت بصمة هؤلاء في إثراء التجربة تستدير أكثر فأكثر.
والثاني نجده متمثلًا في الانفتاح الذي وفرته وسائط التواصل الحديثة ووفرت فرص الاطلاع وبلورة القدرات التي يمكن أن تظل كامنة أو حبيسة.
أما الآفاق فيمكن إيجازها في العطاء الفكري والأدبي الذي يزدهر اليوم في صفوف الشباب السنغالي من حملة مشعل الإحياء حيث نجد بينهم أدباء شعرًا ونثرا يخطف بعضهم الجوائز الأعلي قيمة في العالم العربي وآخرون يحتلون المرتبة الأولي في المسابقات القرآنية العالمية والجميل في الأمر أن هذا التيار يضم الذكور والإناث.
إذا، ثمة حالة انبعاث بارزة تتغذي من الميراث العلمي الأدبي الذي آل إليهم من فطاحل والعلماء والشعراء الذين أنجبهم المجتمع السنغالي حتي قال قائلهم مدلا:
يا غاديا تركب الأهوال والخطرا
وتقطع البيد كيما تدرك الوطرا
فبلغن كل قح من بني زمني
أنا توجهت أني أشعر الشعرا.
ريم آفريك : كيف تفسرون انتشار ظاهرة العنف في مجتمع الفولان ضمن أزمة الأمن في منطقة الساحل؟
محمد سعيد باه : هي في الحقيقة ظاهرة العنف الموجهة إلي الفلان، ولا ينحصر الأمر في مالي وبركنا فاسو فقط بل الظاهرة تمتد إلي آفاق أخري.
وفي تقديري أن ثمة عاملين جوهريين:
يمثل الفلان، مع ثقلهم البشري وامتدادهم الجغرافي، عرق الإسلام النابض في هذه الرقعة الرامية من تخوم الصحراء إلي ضفاف البحر الأحمر وهو ما يجعلهم نصبا لكل من يحلم بإزاحة الإسلام من هذا الفضاء الذي يروق لي أن أسميه بالحزام الإسلامي ضمن محور (نواكشوط – لاغوس).
العامل الآخر يتجلي في الشحن الذي مارسه الفرنسيون كتابا وساسة ضد الفلان كما نجد هذا السم في كتاب الجنرال فيدرب الذي قال عن الفلان بأن الإسلام أفسدهم وجعلهم كذبة…!!
هذا الكره تنفثه اليوم أجهزة كنسية معروفة والتي أعياها اختراق المجتمع الفلاني حيث مرابعهم علي امتداد القارة ووضعوا مشروع الوصول إلي تنصير ٢٪ من الشعب الفلاني علي الأقل ليعتبروا أن رسالة المسيح قد وصلت إليهم.
وثمة عامل آخر لا يمكننا إسقاطه وهو أن خيوط المؤامرة التي نسجت للمنطقة تضع الفلان، لأسباب وجيهة، وسط الدائرة باعتبارهم كانوا سدًا منيعًا تحطمت عليه خطط ومكائد من بداية الاحتكاك حتي الآن.
وهناك للأسف إعلاميون ومفكرون من بني جلدتنا من تورط في هذه الحبكة الشيطانية التي لن تستثني شرارتها أحدا متي انطلقت، حتي لقد راج مؤخرا بأن الفلان يريدون السيطرة علي القارة بعد أن جاءت مجموعة منهم إلي السلطة في كل من نيجريا والسنغال وغامبيا وغينيا بيساو وغينيا كونا كري في الطريق…
ريم آفريك : هل من آفاق لأزمة العنف في منطقة الساحل؟
يؤسفني القول بأن هذه الموجة من العنف مرشحة للتمدد زمنيا وجغرافيا إذا لم تتداركنا رحمة الله ويستيقظ من يقودنا وتدب اليقظة في الشعوب فتتحرك في الاتجاه الصحيح.
وأسباب هذا الاستنتاج وافرة ومتضافرة:
أن هذا العنف ليس وليد ظرف ضاغط أو حالة احتداد تولد احتقانا يتفجر علي شكل صراع ما يلبث أن يهدأ، بالعكس فالبراهين تكاثرت علي أن ثمة يدا لم تعد خفية تدفع الأمور إلي حافة الهاوية.
يبدو لي أن المساحة الممتدة من الصحراء إلي قلب حوض تشاد الممتلئة بالخيرات حتي التخمة مرشحة لتحل محل منطقة الشرق الأوسط بكل ما تختزنه الكلمة من معاني: تنمية شكلية، نهب ممنهج، دق إسفين الفتن لإشغال الشعوب ولإرهاب الساسة..
حتي تتضح الصورة فلننظر في هذا المثال والمتمثل في كميات المياه الجوفية الصالحة للشرب التي تم اكتشافها تحت نهر النيجر والتي قال الخبراء بأنها تستطيع أن تلبي احتياجات العالم بأسره من الماء لمدة قرنين كاملين من الزمن كما أكد الخبير الاستراتيجي ليك ميشيل مؤخرا، وتتضح خطورة هذا الوضع علي ضوء ما يقوله الكثيرون بأن الصراع علي موارد المياه العذبة قد يكون العامل الذي سيفجر حروب المستقبل كما كانت الطاقة في العقود الأخيرة.
وأخيرا، فلنلاحظ أن ظاهرة ما سمي بالإرهاب لم تتوقف في أي منطقة من مناطق العالم تفجرت فيها وبالأخص في العالم الإسلامي.