actualite

المحبة بين الحمد والعبادة ..

أ .بابكر امباي

المحبة مقام عظيم، ليست مجرد إحساس يمرّ في القلب أو عاطفة عابرة تطرق المشاعر ثم تنصرف، بل هي سرّ يربط العبد بربّه، ويجعله يعيش حالة دائمة من القرب والمودة والصفاء ، وإذا تأملنا في حقيقة هذه المحبة وجدنا أنها لا تأتي من فراغ، وإنما هي ثمرة مباركة تنبت بين ركنين كبيرين: الحمد و العبادة.

الحمد هو أول الطريق. أن يحمد الإنسان ربّه يعني أن يرى النعمة، ويعترف بالمنعم، ويشكر على ما أفاض من خير ظاهر وباطن. وكلما كثر تأمل العبد في نعم الله، كثّر حمده، وكلما ازداد حمده انفتح قلبه لمعرفة المولى جل وعلا، وهذه المعرفة تثمر محبة صافية صادقة. ولهذا قال النبي ﷺ: “الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده.”، فالحمد هو بداية السير إلى الله.

أما العبادة فهي غاية الخضوع والامتثال، وهي الدليل العملي على صدق الحمد. فليس الحمد مجرد ألفاظ على اللسان، إنما هو التزام يظهر في حياة العبد كلها، صلاةً وصيامًا وعملاً صالحًا. والعبادة إذن ليست تكليفًا جافًا، بل هي طريق يفتح باب المحبة؛ فقد جاء في الحديث القدسي: “ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه.” فالعبد إذا عبد الله بصدق، أحبه الله، ومن أحبه الله امتلأ قلبه بالمحبة.

من هنا تتضح العلاقة العجيبة: فالحمد بداية الاعتراف، والعبادة تمام الخضوع، وبينهما يولد الحب. وكأن كلمة الحب تحمل هذا المعنى في حروفها؛ فـ الحاء هي حاء الحمد، و الباء هي باء العبادة، فإذا اجتمعتا تكوّنت الكلمة التي تعبّر عن سرّ الارتباط بالله عز وجل.

القرآن الكريم يشهد لهذا المعنى بوضوح. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فجعل الحب مقترنًا بالاتباع والطاعة، أي بالعبادة. وقال أيضًا: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، فجمع بين الحمد والشكر من جهة، والعبادة من جهة أخرى. وهذا هو عين ما نقول: من امتزج في قلبه الحمد بالعبادة، تولدت فيه المحبة.

وقد فصّل العلماء وأهل التصوف في هذا المقام كثيرًا. قال ابن القيم: “المحبة ثمرة المعرفة، وأساسها مشاهدة الإحسان.” أي أن العبد إذا تأمل نعم الله وأحسانه تولدت المحبة في قلبه. وقال الجنيد: “المحبة ميل القلب إلى موافقة الرب.” ولا تتحقق هذه الموافقة إلا بالعبادة. فالمحبة إذن مقام يجمع بين نور الحمد وسر العبادة.

وليس معنى هذا أن الحب منفصل عن سائر المعاني الإيمانية الأخرى، بل هو لبّها وروحها. فالعبد يحمد ربه لأنه أنعم عليه، ويعبده لأنه مولاه الحق، ثم يجد نفسه محبًا له لأنه لا يرى في الوجود أحق بالمحبة من الله.

إن المحبة التي تتولد من الحمد والعبادة ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي تجربة يعيشها المؤمن في كل لحظة: حين يذكر الله فيحمده، وحين يصلي فيعبده، وحين يتأمل في الكون فيرى نعمة المنعم وآثار رحمته. وكلما ازداد العبد حمدًا وخضوعًا، ازداد حبًا، حتى يصبح الحب مقامًا ثابتًا في قلبه، لا يتغير مع تقلب الأحوال.

وهكذا نصل إلى أن المحبة ليست بداية الطريق، بل هي ثمرته الكبرى. طريقها يبدأ بالحمد، ويستمر بالعبادة، وينتهي بحب الله للعبد وحب العبد لله. وهذا هو سرّ قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه}.
المحبة بين الحمد والعبادة ليست علمًا يُحفظ أو كلمات تُتلى، بل هي سلوك يُعاش ويُذَاق. فمن أراد أن يبلغ مقام المحبة، فليُكثِر من الحمد على ما يرى وما لا يرى
من النعم، وليُخلِص في عبادته ظاهرًا وباطنًا، فإن القلب متى امتلأ بالحمد والخضوع، أزهرت فيه شجرة المحبة وأثمرت ثمار القرب والرضا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى