Articles

مقال: لماذا تنسَى بعضَ ما تقرأ؟

د.محمد موسى كمارا

لو كان الإنسان يذكر كلّ أحداث حياته الماضية والحاضرة، في لحظةٍ واحدةٍ لا يتخلَّف فيها حدثٌ، ولا تغيب فيها واقعةٌ، لكان أقلّ ما يَحِيقُ به هو الجنون والخبل! ولك أن تتخيَّل أن تحضر في ذهنك كلّ وقائع الطّفولة، صغيرها وكبيرها، مع أترابك في الحيّ، ومع زملائك في المدرسة، ومع إخوتك الأشقّاء وغير الأشقّاء في الدّار، ثمّ تخيَّل أن يكون حضور الأحداث في الذّهن، جاريًا على هذا المنوال في الشّباب الذي صرت فيه عاقلًا مبينًا، ثمّ في الكهولة، فما بعدها من مراحل الحياة = في لحظةٍ واحدةٍ، وفي وقتٍ واحدٍ، تذكر الأحزان والأفراح متزاحمةً متضاربةً في ذهنكَ، فهل تظنُّ أنّك ستكون هادئ البال، موفور الحظّ من الاستمتاع باللّحظة التي أنت عائش فيها؟ كلَّا ثمّ كلّا لن تكون أبدًا، بل ستكون مضطربًا كلّ الاضطراب، متضايقًا كلّ التّضايق، متقلّبًا في آنٍ واحدٍ، بين مشاعر متفاوتة تطبعها الأحداث على اختلافها، ومن هنا يقع الخبل والجنون!
حين تتأبَّط محفظتك سائرًا إلى الجامعة أو العمل؛ فإنّك لن تذكر شيئًا من الوقائع التي جرت في حياتك، إلّا ما كان منها واقعًا في يومك، أو من قبلِه، أو في مدّةٍ قريبةٍ تتيح لك الذُّكر على كلّ حالٍ، إمَّا من حيث اهتمامُك بالواقعة، أو من جانب تأثّرك بها، ولكنَّ عدم حضور تلك الأحداث في ذهنك (أي حين ينعدم اهتمامك بها ولا تكون متأثّرًا بها)، وأنت في مسيرتك إلى الجامعة أو العمل، لا يعني أنّك قد نسيتها كلَّ النّسيان؛ لأنّه كلّما ثار داعٍ من دواعي الحديث، أو حلَّ حدثٌ مشابهٌ لما جرى عليك من أحداثٍ، استحضرتها مباشرةً بلا تأخُّرٍ؛ وآية ذلك أنَّك إذا اجتمعت بأصدقاء الطّفولة، فتذاكرتم أحداث هذه المرحلة الجميلة السّاذجة، ستستحضر منها أشياءَ كثيرةً، في الهزل والجدّ، وفي الخصام والمنافسة، وفي سائر صراعات الطّفولة التي لا تنتهي.
ومع كلّ ما وصفتُ من استحضارك الأحداثَ النّائيةَ البعيدةَ الموغلةَ في القِدم، فإنّ الذّهن غير مستطيعٍ ألّا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها، بل سيذكر الأحداث المهمّة فقطْ، وإن كانت الأذهان تتفاوت في ذكر التّفاصيل والدّقائق أو الغفلة عنها، فالتّفاوت في الذّكر أو الغفلة واردٌ جائزٌ بلا ريبٍ، أمّا ذكر جميع الوقائع بدقائقها وتفاصيلها مجتمعةً مستحضَرةً بلا تفلُّتٍ ولا تخلُّفٍ، فهذا لا يرد ولا يسوغ مطلقًا، لا في ذهن عالمٍ، ولا في عقل جاهلٍ.
وإذا تبيّن لك هذا على وجهٍ مفهومٍ، فقسْ عليه جميع قراءاتك في الكتب؛ فمحالٌ أن تذكر جميع معلوماتك القديمة والحديثة في وقتٍ واحدٍ؛ ولكن لو أنّك قرأت قراءةً مستوعبةً، كتابًا في الأدب، وكتابًا في الأصول، وكتابًا في الفلسفة، وكتابًا في التّفسير، ثمّ طرأتْ مسألةٌ من المسائل، وكان الأديب الذي قرأت له قد تناولَها وحلّلها، وكان الأصوليّ قد بيّن قواعدها في الشّرع، وكان الفيلسوف الكاتب قد درسها من ناحية العقل والحكمة، وكان المفسّر قد أوضحها وفق استيعابه للآيات الواردة في المسألة، فإنَّك إن لم تذكر بيان المسألة من كل الوجوه التي وقفت عليها خلال القراءة، فأنت ذاكرُه من بعض الوجوه، ولكنّ تفصيل المسألة لم يكن حاضرًا في ذهنك قبل إثارتها بسبب من الأسباب الدّاعية إلى إجالة الفكر في حقيقتها، وتقليب النّظر في جوهرها، أليس كذلك؟ أليس هذا واضحًا؟ أظنُّ أنْ: نعم!.
وكن على بيّنةٍ من أمرك أيضًا، أنَّك قد تذكر المعلومة مجرَّدة من اسم الكتاب الذي قرأتها فيه، أو من اسم القائل الذي تلقَّيتَها عنه، وهذا وارد كلّ الورود، وبكثرةٍ كاثرةٍ أيضًا، وقد وقع لي شبيهٌ بهذا قبل أيّام قلائل؛ حين جاريتُ صديقًا في حديثٍ علميٍّ طويلٍ، فأتينا على ذكر الدّكتور محمّد حماسة عبد اللّطيف، المتوفّى عام 2015م – رحمه الله، فذكرتُ للصّديق أنّ من الأساتذة المؤثّرين في هذا النّابغة الرّاحل، نائب رئيس مجمع اللّغة الحاضر، وهو الدّكتور محمود الرّبيعيّ، فسألني عن منبع هذه المعلومة عندي، فأجبت في الحال بأنّي قرأتها في كتابٍ لا أذكر عنوانَه الآن، ولكن بعد هنيهةٍ في التّفكير والتّروّي، ذكرت الكتاب، وهو (في الخمسين عرفت طريقي) للدّكتور محمود الرّبيعيّ نفسه، وكنت طالعتُه من زمنٍ بعيدٍ؛ فهذا وجه من وجوه الذّكر، مع نسيان بعض التّفاصيل.
وأيُّ حديثٍ عن النّسيان يلمّ أطرافه لـمًّا جامعًا مانعًا؟ إن لم يكن هذا مستحيلًا، فهو قريبٌ من الاستحالة، أو صعبٌ كلّ الصّعوبة في كلمة مختصرة؛ فالخلاصة أن تعلم أنّ النّسيان واقعٌ على الوجوه المذكورة، وواقعٌ أيضًا أن تنسى المعلومة تمام النّسيان، ولا سيّما معلومةٌ لا خطر لها يُذكر، وهذا يحدث لكلّ قارئٍ بلا فرقٍ في ذلك. ولتعلمْ أنّ لكلّ سطرٍ تقرأُه، أثرًا في أسلوب كتابتك، وفي طريقة تعبيرك، وفي منهج تفكيرك، وفي ديباجة نظرك إلى الأشياء، بشكلٍ واضحٍ جليٍّ، أو بشكلٍ غامضٍ خفيٍّ؛ فلا تحزن إذا نسيت بعضَ ما تقرأه في الكتب، ولا تضجر إذا رأيت بعض المعلومات لا تستقرُّ في ذهنك؛ فإنَّ كلّ قراءاتك بذرةٌ طيّبةٌ غُرست في أرض عقلك من حيث لا تعلم، فلن يمضى من العمر وقتٌ طويلٌ حتّى تنمو وتزكو، فتخرج شطأها، فتؤازرُه، فتستغلظ، فتستوي على سوقها شجرةً باسقةً مثمرةً تُؤتي أُكلَها كلّ حين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى