Articles

مقال: قَدَر أنصار الحقّ أن ينال منهم أتباع الباطل

الأستاذ الدكتور أسعد السحمراني

تخرج علينا هذه الأيام أصوات تابعة لمخطّطات صهيوأمريكيّة لترويج مقولات عمادها فكر الكراهيّة، وفيها كمّ كبير من الجهل بالحقائق، وافتراءات جمّة على النصوص وعلى أهل الاختصاص وأصحاب الشأن، لذلك كان من الواجب أن يكون الردّ بغير مستوى المستأجرين، بل ببيان قويم وفكر متنوّر، وفقه رشيد.
إنّ تأصيل العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة أساسه النصّ القرآني والسنّة النبويّة في النظر الإسلامي، ولقد جاء في النصّ قول الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ.) “سورة المائدة، الآية ٨٢”.

ولا يخفى على العارفين في لغة العرب أنّ الودّ والمودّة من أرقى مستويات العلاقات بين طرفين.
ثمّ كانت سورة من سور القرآن الكريم باسم (سورة الروم) : فيها قول الله تعالى : *(غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.)* “سورة الروم ، الآيات ٢-٥”.
والواقعة المقصودة هي أنّ الفرس وهم مشركون كانوا قد انتصروا على الروم المسيحيّين، وكان المسلمون يحبّون ظهور الروم وانتصارهم على الفرس لأنّهم وإيّاهم أهل كتاب، وكان مشركو قريش يريدون انتصار الفرس لأنّهم وإيّاهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث وحساب…
وفي السيرة النبويّة كما ورد عند ابن هشام عن ابن إسحاق: عندما رأى النبي محمّد عليه الصلاة والسلام وعلى الأنبياء والمرسلين ما يصيب أصحابه من البلاء في بداية الدعوة ومن الأذى من قبل المشركين، قال لهم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملك لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله تعالى لكم فرجاً ممّا أنتم فيه.”
وكان بعد ذلك أن زار وفد من مسيحيّي نجران النبي عليه وعلى الأنبياء والرسل الصلاة والسلام وفي الوفد أساقفة ورهبان، وما أورده ابن هشام في السيرة هو: “دخلوا عليه مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب وأردية،….وقد حانت صلاتهم، فقاموا في المسجد النبوي يصلّون، فقال النبي: “دعوهم” فصلّوا إلى المشرق.” فقد صلّى أهل نجران النصارى في المسجد النبويّ في المدينة المنوّرة وبحضور النبي عليه الصلاة والسلام، صلاتهم متّجهين إلى بيت المقدس، والنبي يقول لأصحابه: دعوهم ليصلّوا، فهل من سماحة وتراحم، وعلاقات مودّة أقوى من هذا؟!
ثمّ كان العهد النبويّ الميثاقيّ لمسيحيّي نجران الذي يشكّل ميثاقاً لعلاقات راسخة ومتينة في كلّ زمان ومكان، ونصّ العهد النبوي المعطى لنصارى نجران، هذا نصّه:
“ولنجران وحاشيتها، جوار اللّه تعالى وذمّة محمّد النبيّ رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملّتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم (كنائسهم)، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغيّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم ربية ولا دم جاهليّة، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقّاً فبينهم النَّصْفُ (العدل) غير ظالمين ولا مظلومين.”
وكان في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب استلام مفاتيح القدس من البطريرك صفرينوس، وكانت العهدة العمريّة الميثاقيّة، ونصّها هو:
” هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء (القدس) من الأمان، أعطاهم أماناً على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها، وسائر ملّتها، أنّه لا تُسْكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن أحد بإيلياء -القدس- معهم من يهود.”
والقدس فيها كنيسة القيامة حيث يحمل مفاتيح الكنيسة والقبر المقدّس سليلو عائلتيْن مسلمتيْن هما : عائلة نسيبة المقدسيّة وهي من نسل الصحابي عبادة بن الصامت، وعائلة جودة الحسيني، والمفاتيح معها من قِبَل صلاح الدين يوم طرد الفرنجة من القدس… وفي القدس مرابط هو المتروبوليت عطاالله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس، وهو صاحب المواقف المتميّزة والرياديّة في الحفاظ على المقدّسات والقدس ضدّ مؤامرات التهويد من كيان العدوّ الإسرائيلي وشركائه، وهو الأسقف الذي استنهض الهمم لمقاومة الاحتلال والشرّ الصهيوأمريكي، لذلك استهدفه المأجورون بسهام باطلهم، وحرب أدوات العدوّ على شخص ومرجع دليل على سلامة طريقه ومواقفه ومنهجه.
وقل الأمر نفسه عن المتروبوليت الدكتور باسيليوس منصور مطران عكّار وتوابعها للروم الأرثوذكس الذي تميّزت مواقفه وأفكاره بالحكمة وبالانفتاح ممّا أسّس لاستقرار في العلاقات في مناطق مسؤوليّته الكنسيّة في لبنان وسورية لمواجهة مؤامرات الصهيوأمريكان ومن استأجروهم من الشرّيرين والوضيعين، وقد أنجز ما أنجز لكنيسته ورعاياه ولبلده ووطنه العربي الكبير، وفي عهده كان إنجاز كنيسة قرية الدورة في محافظة عكّار من لبنان التي كان قد هدمها فخرالدين الثاني يوم غزا آل سيفا عام ١٦٣٢ للميلاد. وقد تمّ إعادة بناء الكنيسة على عاتق المسلمين أكثر من المسيحيّين، و كان احتفال وضع حجر الأساس في أول شهر أيّار / ماي من العام ٢٠١٠ في قاعة مسجد الدورة بحضور العلماء المسلمين والكهنة المسيحيّين مع حشود من المسيحيّين والمسلمين، هذا غير المواقف التي يتّخذها كلّ من المطرانيْن منصور وحنا في قضايا الأمّة العربيّة لا سيّما القضيّة الأولى فلسطين.
لذلك يكون من البديهي أن تصدر افتراءات عليهما من مرتزقة واشنطن والصهيونيّة ومن المستأجرين من الصهيوأمريكان.
قَدَرُ أنصار الحقّ أن ينال منهم أتباع الباطل.

*اختصاص عقائد وأديان مقارنة وخبير في الحركات والتربية والفقه الإسلامي

ظهر السبت بتاريخ ١٤- ١١- ٢٠٢٠

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى