قراءة في بيت الشيخ الخديم : بِالْمُصْطَفَى لِي بَنَى القُدُّوسُ مَدْرَسَةً* بِهَا يَزُولُ الأذَى والجَهْلُ وَالكَبَدُ
سرين امباكي عبد الغفور
مما يَلفت النظر دائما كيفية اختيار الشيخ الخديم -رضي الله عنه – للمفردات، وطريق نظمه وصياغته للكلمات، وبالنظر المتأني في هذا البيت يمكننا إدراك ذلك وملاحظته، ألم يكن بالإمكان أن يقول الشيخ: بالمنتقى، أو بالمجتبى، لي بنى الرحمان مدرسة؟، ويكون الوزن سليما، والمعنى مقاربا، ثم لماذا قال: “بَنَى” و”يزول”، بمضي ثم مضارع، ولم يقل: “يبني” و” يزول” بفعلين مضارعين؛ خاصة أن المدرسة لم يكن لها وجود في الظاهر؟، وما سبب إيثاره لفظ”مدرسة” على”جَامعة” والوزن واحد؟ وأليس تأدية أصل المعنى كان يقتضي أن يقول: بنى القدوس لي بالمصطفى مدرسة يزول بها الأذى والجهل؟ أو نحو ذلك من الطرق الممكنة؟ ولماذا قدم الأذى على الجهل؟، وما معنى ذكر الكبَد في هذا السياق ولمَ لمْ يكتف بالجهل فقط ؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات والوقوف على أسرار التعبيرات، نقول بإيجاز غير مخل:
إن هذا التصرف في العبارة، وهذا الانتقاء للدلالات الموحية، وهذا العدول عن صيغة إلى أخرى؛ لم يأت عَرَضا ولا عفوا، ولكنه في غاية المراد وفي صميم المقصود؛ لأنه مناط البيان أو النظم الذي يتفاوت فيه الأدباء والبلغاء، كما أنه محل نظر البلاغي الذي يبحث عن المعاني الزائدة في الجمل لا عن أصل المعنى.
قوله: بالمصطفى:
فالاسم مشتق من فعل “اصطفى” من الصفو، قال ابن فارس: ” صفو أصْلٌ يدل على الخلوص من كل شَوْب، والصفاء ضد الكدر، يقال صفا: إذا خلص، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- صفوة الله ومصطفاه”، والفرق بين الاصطفاء والاختيار – كما يقول العسكري-: ” أن اختيارَك للشيء أخذُك خيرَ مافيه حقيقة أو خيره عندك، والاصطفاء أخذ ما يصفو منه”، وعلى هذا فالاصطفاء أخص من الاختيار، فالأنبياء كلهم مختارون وهم صفوة الخلق، ومحمد صفوة الله منهم ومصطفاه.
وقد أفاد الاسم “بالمصطفى” أن المدرسة التي ينشدها الشيخ الخديم لا تقتصر مهمتها على التعليم المحض والتلقين الصرف، ولكنها تجعل التربية “والتصفية” إحدى غاياتها وأسمى مراميها، حتى يكون الخِرّيج فيها مُسَلّحا بجميع العلوم والمعارف، ومؤهلا علميا وسلوكيا لعمارة الأرض التي استخلفه الله فيها.
قال تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين (اصْطَفَينا) من عبادنا.
وقال: يا مريم إن الله (اصطفاك) ، وقال: إن الله (اصْطَفى) آدم ونوحا وءال إبراهيم، وقال: وإنهم عندنا لمن (المصطفين) الأخيار، فراجع معنى الاصطفاء ومهمة المصطفين في هذه الآيات، ثم تذكّر حديث: “العلماء ورثة الأنبياء”، ثم تضع ذلك كله إزاء هذه المدرسة التي تُخَرّج هؤلاء العلماء؛ لترى مدى التلاؤم والدقة في اختيار هذا الاسم: بالمصطفى.
وشيء آخر من دلالة “المصطفى” وهو أنه قد يكون خطابا للقائمين بهذه المدرسة إلى أن المنهج ينبغي أن يكون “مُصْطفى” ومختارا بعناية حتى تؤتي المدرسة أكلها، وهو” بها يزول الأذى والجهل والكبد”، واللغة لا تأبى هذا الاستنطاق، ولا ترفض هذه الإشارة ، فهي تعطيك ما تسألها كما يقول أهل العلم، وأرى أنهم -المشرفين والقائمين بالأعمال- قد وُفقوا توفيقا عظيما ببركة المُسمّى، المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وكما ترى فمن المناسب هنا أن يختار اسم الجلالة الذي يُطابق سياق هذا المعنى ويوافقه، وهو القدوس، ومادته “قدس” أصل يدل على الطهر، وليس الرحمان ونحوه. فهذا واضح جلي
وقوله: بنى
بصيغة الماضي لا المضارع والأمر؛ فللدعوة إلى تحقيق هذه الأمنية الأكيدة في نفسه، ولذلك أخرجه مخرج الحكاية للخبر، وكأنه حصل بالفعل، أي تنزيل المتوقع منزلة الواقع عند أهل الظاهر والبلاغيين، وقد يكون عند أهل الباطن إخبارا بتحقق البناء في المستقبل، وأن الله كشف له المدرسة فعايَنَها، ولو قال: “يبني” لتُوهّم البناء وعدا له من الله عز وجل، ولو قال: ابْن، أمرا من البناء لكان دعاء، وليسا بمرادين، فتعيّن الماضي.
وقد اتخذ المريدون، منذ عهد الخليفة الأول، الأمنيات الثلاث التي تركها الشيخ الخديم -رضي الله عنه -، ومنها المدرسة، من أولى الواجبات، وألزم المهمات، فأنجز الشيخ محمد المصطفى الأمنية الأولى وشرع في الثانية، التي كملت على يد الخليفة الثاني الشيخ محمد الفاضل، فبذر الفكرة الأولى من الأمنية الثالثة وهي المدرسة (واسمها دار المعارف الإسلامية) التي أقيمت في الجامع الكبير بعد افتتاحه، وتخرج فيها كثيرون من الكوادر، ثم جاء الخليفة الثالث الشيخ عبد الأحد فتوسع فيها توسعا هائلا، وهكذا إلى عهد الخليفة الحالي، الشيخ محمد المنتقى، فكان من توفيقاته أن يكون له منها نصيب الأسد.
قوله: مدرسة.
وأما رائحة التعظيم في تنكير المدرسة فتشمها في قول العلامة الشيخ امباكي بوسو يذكر أمنيات الشيخ -رضي الله عنهما-: “مدرسة تكون رحلة السنغال إليها في العلوم العربية شرعيتها وآلاتها”. وتأمل المبالغة في قوله:رحلة السنغال إليها” بدلا من: رحلة أهل السنغال” فحذف المضاف.
وانظر الدقة كل الدقة في استعماله لفظة “مدرسة” بدل “جامعة”، فمفهوم الأولى -لا ريب- أوسع وأشمل من الثانية، وعلى هذا؛ فكل مكان نتلقى فيه دروسا “بها يزول الأذى والجهل والكبد” داخل في مراد الشيخ، سواء كان باسم “المُجمّع، أو “جامعة الشيخ أحمد بمب”، أو الأزهر أو غيرها
قوله: يزول
بالمضارع لا الماضي؛ فتنبيه إلى أن عطاء المدرسة متواصل، ومددها مستمر، وثمرتها لا تنتهي، فحريٌّ عليكم أن تقوموا بها أتمّ قيام، وترعوها أحسن رعاية، ففي ذلك النفع وصلاح الحال لكم ولمن بعدكم في الحال وفي المآل.
قوله: الأذى والجهل والكبد.
فقد أسلفنا أن مهمة المدرسة والغاية من وظيفتها ليست مجرد تعليم وتقديم نظريات، أي( بها يزول الجهل) ولكنها بالإضافة إلى التعليم مدرسة تربوية وسلوكية تهدي المرء إلى عيوب نفسه وأذيّتها التي تمنعه من الوصول والانتفاع بالعلم، أي (بها يزول الأذى) ويجد فيها أسباب سعادته الدنيوية والأخروية، وما تنفي عنه شقاوة المعاش والمعاد، (بها يزول الكبد) فبالنظر إلى “بها يزول الجهل” فهي مدرسة علمية، وبالنظر إلى”بها يزول الأذى والكبد” فمدرسة عملية، وبهاتين الوظيفتين حدد الشيخ الخديم-رضي الله عنه- مهمة المدرسة ووظيفتها، والغاية منها، وهي: سعادة الإنسان في الدارين.
ومن التوفيقات الإلهية أن نعيش هذه اللحظات التي يتم فيها افتتاح بناء من مدرسة الشيخ الخديم على يد الخليفة الموفق المؤيد، الشيخ محمد المنتقى،
ولا يسعني في حقه إلا أن أقتبس قول الشيخ أحمد بن أُحبَيِّب الشمشوي البهنَّاوي في رسالة تهنئة للشيخ محمد الفاضل بعد اكتمال بناء الجامع في رسالة سماها: ” إرضاء الصديق الحميم في جامع طوبى ومزار الشيخ الخديم(١)”، يقول: فهنيئا لكم بهذه المفخرة الفَخِيمة، والمأثرة الخالدة، وأنه ليحِق أن يعقد لكم العالَم الإسلامي إكليلا من الثناء، وأن يُرصِّع لكم تاجا من الشكر على هذه المبادئ الثابتة في بناء هذا الجامع، وعلى هذه العزيمة الصادقة، والأخلاق العالية، وعلى تلكم المُناصرة الفعلية والأدبية والمادية التي أيَّدتكم بها تلامذتكم الخلصاء.
أطال اللهُ أعْمَارَ المَعالي وَذَاكَ بِأَنْ يَطُولَ لكَ البَقَاءُ
فلاَ زَالتْ تُمَدُّ إلَيكَ أَيْدٍ بِضَاعَتُهَا دُعَاءٌ أوْ ثَنَاءُ