عودة إلى مقابلة صحفية تاريخية مع الشيخ محمد المصطفى الخليفة الأول للشيخ الخديم
د. سام بوسو عبد الرحمن
نشرت جريدة “الجمهورية” في
عددها الصادر في العاشر من مارس ١٩٣٤ ميلادية تحقيقا صحفيا تضمن مقابلة مع الشيخ محمد المصطفى الكريم (١٨٨٨م-١٩٤٥م) الخليفة الأول لمولانا الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنهما، ونود هنا إلقاء نظرة تأملية خاطفة حولها.
وقبل الشرع في سرد الحوار مع الشيخ محمد المصطفى عني الصحفي روبير دي لافينيات Robert Delavignette بوصف ما شاهده خلال رحلته إلى طوبى، وما عاينه في دار الخليفة بتفصيل دقيق، كأنه يقدم للقارئ فيلما سينمائيا عن جو المقابلة، ولم يبخل في التفاصيل حول البيئة المحيطة بالشيخ وحول مظهر الشيخ نفسه.
نص الحوار :
كانت الكلمات الأولى التي أوردها عن الشيخ هي:” من ليس عنده شيء يخفيه يسعده أن يقول ما يفعل. تريد أن تعرف لما ذا أدعو الناس إلى العمل. لأن فيها تربية وتهذيبا للأخلاق. فالعمل هو الذي يوفر للشخص غذاء وكسوة، ويمكنه من أن يُطعم ويكسوَ الآخرين ويخدمَ شيخه. وهذا هو السعادة”.
- وما هو العمل الأساسي؟
- العمل في الأرض (الزراعة)!
وبصوت ناعم (…) أضاف الشيخ قائلا: - نحن نفضل الأسوار والبيوت المصنوعة من الصفائح المعدنية لتحل محل الأسوار والأكواخ المصنوعة من القش، لأن هذا تقدُّم مسموح به. فمع الصفائح المعدنية لم يعد توجد إصلاحات سنوية، ولا فئران، ولا حرائق. عموما، فيما يخص المسكن، والغذاء، والكسوة، يمكن الاستفادة من الحضارة المادية للأوروبيين بما يتفق مع نهج المريدين.
- هل يمكن لبس المعطف بدلا من الدراعة (Boubou)؟
- لم لا، إذا كان ذلك لا يزعج المؤمن في سجوده أثناء الصلاة؟
- إذا كان سعر الفستق مرتفعا فيم تأمر مريديك أن يستخدموا تلك الأموال؟
- يقول الله تعالى في القرآن الكريم؟” يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ”، فيجب على المريد أن يتصدق من الأموال المكتبسة من العمل، ويشتري منها أشياء مفيدة. نحن نطلب محاريث للزراعة. ونريد أن نضع محاصيلنا من الحبوب في أكياس بدلا من تركها جزافا في سنابلها، ونود أيضا أن نحصل جميعا على ناموسيات، كما نريد أن نجرب آلات لدق الحبوب.
تعليق الصحفي
علق الصحفي على الحوار بقوله: إن قيمة هذه المحادثة تكمن في صدق هذا الشيخ الكبير. إنه بمثابة “البابا” لا يمكن أن يخطئ. وقد كتب بالعربية إلى مريديه ” إن الشرط الأساسي لفوز المريد هو امتثال أوامر شيخه “
فلم يعد هناك مناقشات دائمة وعنيفة تعقبها أحيانا ضربات بين علماء المسلمين حول تفاسير القرآن وحول أفضلية دعاء ما على أخرى. هنا زعيم واحد هو الشيخ. يجب طاعته بصرامة. ويجب اكتساب الثروة من خلال العمل والتجارة.
تأملات حول المقابلة
إنها مقابلة وجيزة ولكنها مفعمة بالدلالات العميقة، تكشف عن رؤية الشيخ محمد المصطفى للعمل والكسب، ونظرته الثاقبة حول إشكالية العلاقة مع الحضارة المادية الغربية، وعن شخصيته القيادية.
فيما يخص العمل، يجسد الخليفة فلسفة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه فيه، لأنه ينظر إلى العمل باعتباره وسيلة من وسائل تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، ويعتبر زراعة الأرض العمل الرئيس للمريدين، وطريقة من طرق كسب الحلال الذي من خلاله يوفر الإنسان حاجاته الأساسية من غذاء، وكساء، ومسكن، لنفسه وللآخرين، ويخدم مجتمعه ودينه.
وهذه الروية حول العمل تعكس منهج الشيخ الخديم رضي الله تعالى الذي يقول
أما البطالة وتضييع العمر بغير ما يعني فداؤه يضر
(…)
وطلب الحلال فرد ينتمي لكل مسلم بغير وهــم
فالعمل في نظر الشيخ الخليفة ليس من أجل تكديس الأموال لاستخدامها في إشباع الشهوات النفسية، بل من أجل صرفها فيما ينفع الخلق، ويرضي الخالق تعالى من الصدقة والإنفاق، وشراء الأشياء المفيدة، وهذا يتفق مع توجيه الشيخ الخديم بشأن الحال.
وإن وجدتَّه فلا تُضيِّعا ومن يُضيِّع الحلالَ ضُيِّعَا
وأما نظرة الشيخ محمد المصطفى حول إشكالية العلاقة مع الحضارة المادية الغربية فهي تتسم بالعمق والتوازن، وخلاصتها: أنه يجب الاستفادة من التطور المادي لتحسين ظروف العيش وتطوير أساليب العمل مع التمسك بالمعايير والقيم الإسلامية الكامنة في تعاليم الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه. فلا يرفض أي تطور جديد لا يؤثر سلبا في الحياة الدينية.
ومن جوانب شخصية الخليفة التي تكشف عنها هذه المقابلة بُعدُه القيادي المتمثل في اهتمامه الشديد بمصالح المريدين بأدق تفاصيلها، فنراه يسعى لإيجاد المحاريث للزراعة، وحفظ المنتوجات من الفساد، وتوفير الناموسيات لحماية الناس من الأمراض وإيجاد آلات لدق الحبوب.
وأخيرا، تتلمس في تعليق الصحفي إعجابه بشخصية الخليفة الذي تتراءى أمارات الصدق، والجدية، والرؤية الثاقبة من كلامه. وقد خرج من خلال مقابلته مع الشيخ الخليفة وملاحظاته بنتيجة مهمة، وهي أهمية وجود زعيم مسموع الكلمة ومطاع الأوامر يقود قومه نحو الأمور الأساسية، والمطالب العليا، ويحميهم من الغرق في متاهات المناقشات والمسائل الخلافية المثبطة للهمم، المثيرة للنزاعات والصراعات