Articles

صرخة قلم في وجه الشَّتائم .. عندما تُغتال القيم باسم حرّيّة التعبير

د.أحمد سيك

مما يؤرّقني هذه اللّيالي، ويقضّ مضجعي، ما آلت إليه وسائل التّواصل الاجتماعي ومنصَّات التّعبير الحرّ في بلادنا السّنغال، حيث تحوّلت من نوافذ للحوار الرّاقي، ومدارج للفكر الواعي، إلى ساحات طاحنة لتصفية الحسابات، ومذابح لغوية تنهال فيها الشّتائم، وتُغتال فيها الكرامات على مرأى ومسمع من الجميع!
لقد تجاوزت الألفاظ النّابية والتّصريحات الجارحة حدود الحشمة والخلق، حتّى طالت شخصياتٍ سياسيةً من مختلف الأطياف: من حكوميّة ومعارضة، إلى رؤساء سابقين، ووجوهٍ عامّةٍ كان لها في يوم مَّا بصمة في الشّأن العامّ. ولم يكن غريبًا، بعد هذا الانحدار، أن تنفجر القضايا القضائيّة، وتُرفع الشّكاوى، ويُعتقل ناشطون من هنا وهناك، وكأنّ البلاد دخلت طورًا جديدًا من النّزاع اللّغوي بدل الصّراع الفكريّ.
غير أنّ هذا المشهد المقلق، ليس وليد اليوم ولا ابن السَّاعة، بل هو ثمرة مريرة لسلوك اجتماعي متجذّر في تربتنا النّفسيّة والسّلوكي. وقد قلتُ – منذ سنين – في مقالة سابقة: “نحن مجتمع يعشق الضّرب ويهوى الشّتم، إلا من رحم الله؛ فالوالد يضرب ابنه، والزّوج يضرب زوجته لأتفه الأسباب، وصدى الشّتائم تكاد تملأ الفضاء.” وكنت يومها أدقُّ ناقوس خطرٍ تربويٍّ وسلوكيٍّ ينذر بخلل عميق في منظومتنا الاجتماعيّة، خلل لا تُصلحه المسكِّنات ولا تُعالجه الحملات المؤقَّتة، بل يحتاج إلى جراحة جذريَّة تمسّ مناهج التّربية ومفاهيم السّلطة داخل الأسرة والمجتمع.
لكنّ ما هو أشدّ خطرًا، وما يُرخي سدوله في صمتٍ مريب، هو ما بات يطال الشعائر والرموز الإسلامية من إساءات سافرة أو مغلَّفة، استهزاءً حينًا، وتشكيكًا حينًا، وامتهانًا لفظيًّا أو رمزيًّا أحيانًا كثيرة. وهي إساءات لا تقلّ خطورة عن سبّ الشّخصيّات والأعيان، بل تفوقها أثرًا وضررًا؛ لأنّها لا تمسّ فردًا أو حزبًا، بل تضرب في صميم الأمّة وثوابتها وهويّتها الرّوحيّة.
إنّ حريَّة التَّعبير، التي كفلها القانون وصانها الدّستور، ليست سيفًا مسلّطًا على القيم والمقدَّسات، ولا رخصة للتّطاول على الدّين ورموزه تحت عباءة النّقد والتّنوير. فالكلمة إذا لم تُحكم بقيود الأخلاق، تحوّلت إلى عاصفة هوجاء تهدم الجسور وتزرع الفتن. وبين حرّيّة القول واحترام الآخر خيط رفيع، إذا انقطع، سادت الفوضى، وانهارت الثّقة، واستحال المجتمع إلى حلبة صراع لغويّ لا عقل فيه ولا ضمير.
من هنا، فإننا نناشد مؤسساتنا التّربويّة والدّينيّة والإعلاميّة أن تنهض بمسؤولياتها، تربيّةً وتوعيّةً وتنقيةً للخطاب العامّ من أدران البذاءة والانحطاط. كما نهيب بالقضاء أن يكون ميزانه في الإنصاف مستقيمًا، لا يلاحق المسيء إلى الأعيان ويسكت عن المسيء إلى القرآن، ولا يُعاقب من شتم الزّعيم ويغضّ الطّرف عمّن شتم ربّ العالمين! أو سخِر من سنّة نبيّه!.
إن حرمة الدّين أسمى من حرمة الأشخاص، والمساس به أولى بالرّدع والتّقويم، لا بالتّهاون والتّأجيل. وإنّنا لنتساءل بمرارة: أليس الأجدر بمجتمع تدين غالبيته بالإسلام أن يغضب لله كما يغضب للزّعيم، وأن يُحرّك القضايا حين يُمسّ كتاب الله، كما يُحرّكها حين يُمَسّ مقام السّياسيّ؟
وأخيرًا، فليعلم الجميع – قادة ومواطنين- أنَّ بناء مجتمع متماسك لا يبدأ من المصانع والمشاريع، بل من الكلمة، من احترامها وتزكيتها، من الإيمان بأن لكلّ لفظ تبعات، ولكل شتيمة جراحًا لا تندمل؛ فالكلمة مسؤولية، و”ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد”، فلنحرص على طيب القول، كما نحرص على طيب المأكل والمشرب، ولنزرع بذور الاحترام في حروفنا قبل أن نطالب بثماره في واقعنا

محاضر في قسم اللغة العربية كلية الآداب والعلوم السياسة بجامعة شيخ
أنت جوب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى