actualite

الإسلام واللغة العربية يفقدان عالما ربانيا وشاعرا قديرا
برحيل الحاج سيدي جابي تسليم (1928 ـ 2023)

د.جيم عثمان درامي

لقد فوجئ أهالي السنغال بوفاة شيخ جليل وعالم كبير وكاتب قدير، الحاج سيدي جابي “نزيل قرية تسليم” بمنطقة كاسمانس في السنغال. فوقع عليَّ الخبرُ بمثابة صاعقة مدمرة. ذلك أنه لم نسمع شيئا عن مرضه قط، ولم نكن نتوقع إعلان مثل هذا النبإ المؤلم المؤسف المفاجئ. كنا نعرف أنه مسن، بيد أن صحته في لقانا الأول والأخير قبل عام، أو أكثر من عام بقلي في منزله بتسليم، كانت جيدة. كنا نتمنى أن يبقى شيخنا العالم الشاعر، على قيد الحياة أعواما وأعواما، بحكم مكانته الدينية والاجتماعية والعلمية والثقافية وبحكم خدمته للدين واللغة العربية في السنغال وغينيا كوناكري وغامبيا. ولكن الإنسان ينوي ويتمنى والأقدار تقضي ما تريد هي لا ما يريده الناس. فالموت حق إذا جاء لا ينظر إلى أمنيات أصدق الأصدقاء وأخلص الأوفياء. فلم يخطئ الشاعر القديم حين قال: إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع.

وفقيد الأمة الإسلامية هو ابن أستاذ الشريعة الإسلامية والمفتي بمذهب السادة المالكية الشيخ الحاج محمد فودي جابي الطوبوي الفوتجلي رحمة الله عليه (1321 ـ 1400هجرية) والذي كان قد استقر بمدينة مرساسم، إقليم سيجو في جنوب السنغال. إن الكثير مما نورده من معلومات حول هذه الشخصية الإسلامية العظيمة أخذناها من مصدرين : بعض كتابات الأستاذ عبد الأحد ساني في مقدمة كتاب ألفه الشيخ الراحل، ومقابلتي مع الشيخ نفسه، في مدينته تسليمَ عام 2022، ضمن جولة للبحث عن المراكز الإسلامية والمخطوطات في كاسماس.

أصله: ينحدر العالم الفقيد من أسرة دينية علمية عريقة لها تاريخها ولها إسهامها في التعليم العربي الإسلامي وفي نشر الدين في سنغامبيا بصفة عامة. والده هو الإمام العلامة، المحقق الذي كان يجمع بين علمي الشريعة والحقيقة كما تقول المصادر: والقائم بتجديد الملة وإحياء السنة، العارف بالله تعالى الشيخ الحاج محمد فودي جابي بن الأستاذ الكامل، الشيخ محمد المغليي بن الأستاذ الأكبر، قطب الدين عبد القادر بن الأستاذ المربي، الشيخ محمد التسليمي بن الأستاذ الشيخ شمس الدين الحاج سالم كرمخبا جابي، الجد الثالث لوالد الفقيد و باني مدينة طوبى المشهورة في فوت جلون عام 1239 هجرية، حيث توفي عام 1252 هجرية. تؤكد مصادرنا أن الأسرة الجابية الخسمية تنحدر من سلالة جابر بن عبد الله بن عمر الخطاب رضي الله عنه.

نجد في الكتاب الذي ألفه الفقيد وسماه “الديوان المشهور من غرر القصيدة والمتون” ترجمة له تساعد على معرفة قسط عظيم من نسبه ومولده ونشأته وتكوينه العلمي ومؤلفاته وبعض إنجازاته الاقتصادية. نقرأ في الكتاب المشار إليه والذي قدمه على القراء الباحث القدير عبد الأحد ساني البغدادي: أنه ولد في أوائل شهر محرم، عام 1928، بمدينة طوبى الواقعة في منطقة فوتجلون. لقد هاجر به والده فيما بعد من مسقط رأسه متوجها إلى منطقة كاسماس السنغالية عام 1929 ميلادية أيام كان ابنه سيدي جابي رضيعا.

وأمه هي السيدة أم الخير قراسي، بنت الشيخ الإمام فودي سالم قراسي وهي أيضا من أصل مدينة طوبى بفوتجلون: تنتمي إلى أسرة عريقة مشهورة بالدين والصلاح والتقوى. ومن الواضح أن الشيخ سيدي جابي ولد ونشأ في بيت علم وصلاح ودراية وولاية، وتربى في كنف والده وشيخه الحاج محمد فودي جابي. وفي الخامس من عمره بدأ والده يدرسه القرآن الكريم نتيجة ما رأى فيه من مواصفات تؤهله على ذلك من الذكاء والعقلية وقوة الذاكرة. وحين حفظ القرآن الكريم شرع في تلقي مبادئ العلوم الشرعية والفنون اللغوية على يد والده. كما تلقى العلم على يد بعض أعمامه في مدينة مرساسم. لقد اعتنى والده به أثناء دراسته وتكوينه اعتناء خاصا واهتم به اهتماما عظيما ووفق في تكوينه تكوينا علميا جديرا بهذا الوصف. إذ درسه العديد من المختصرات والمطولات من كتب الفقه واللغة والتفسير وغيرها حتى أتقنها وأجادها وأصبح متضلعا فيها عارفا بدقائقها وخفاياها.

أضف إلى ذلك كله ما قام به من تنشئته وتربيته على المنهج التربوي العتيق المتوارث من أجداده بغية إعداده بحيث يكون قادرا، في المستقبل، بفضل لله وعونه وإحسانه وتوفيقه، على تحمل أعباء ومسؤولية الخلافة والزعامة الدينية مهما يكن ثقلها ومهما يكن وزنها. وكان من توفيق العلي القدير أن أبقى والده ومعلمه على قيد الحياة قترة طويلة يساجله ويذاكره دائما في مختلف فنون العلم. ظل بين يدي والده طالبا متعلما إلى أن بلغ اثنين وخمسين من عمره فتوفي والده وشيخه ومعلمه. وترك ورائه ابنًا بارا، مكونا تكوينا جيدا متسلحا بالإمدادات وكل ما يلزم لتقلد الزعامة الدينية الثقيلة، فأصبح خليفة والده منذ تلك الأيام من عام 1980.

يقول عبد الأحد ساني إن الشيخ الحاج سيدي جابي كان دون أدنى شك، من نوادر هذا الزمان علما وفهما وزهدا وعبادة. إذ تضلع كما قلنا في العديد من العلوم الشرعية والفنون البلاغية واللغوية. كما تشهد له بداهته السريعة في الإجابة عن الأسئلة العويصة التي كانت ترد إليه بين الفينة والفينة على حد قول الأستاذ عبد الأحد ساني. تجدر الإشارة إلى أن الفقيد العظيم كان إلى جانب ذلك كله شاعرا فحلا يعتبر بحق من الطراز الأول. كان ذا طبع سليم، يتمتع بسليقة شعرية موروثة. كان يقرض الشعر كيف شاء وأنى شاء دون تكلف ولا تصنع. طرق أكثر أغراض الشعر العربي ما بين المدح والرثاء والوصف. وله مراسلات شعرية إخوانية إلى غير ذلك من الأغراض التي من أجادها ووفق فيها يدل دون أدنى شك على أنه من كبار الشعراء السنغاليين في العصر الحاضر. إن إجادته في غرض الشعر وتوفيقه في مختلف مجالات الحياة الفانية هذه إن صور شيئا فإنما يصور استجابة الخالق الرزاق حين دعا لنفسه في عنفوان شبابه قائلا:

أرجو من المولى الكريم بأن أكن في كل فن فارس المضمار

وأكون حبرا عاملا متمكنا من آلة الإنشاء بالإخبار

كان الفقيد كما أسلفنا شاعرا متمكنا وكاتبا قديرا، له مؤلفات عديدة أثبت بعضها الأستاذ عبد الأحد ساني في تقديم كتاب للشيخ سيدي جابي، أشرت إليه في مستهل هذه السطور. من أهم مؤلفاته:

ا ـ صيحة المتعلم في معرفة آداب التعلم

ب ـ ديوان بغية القاصد في الثناء على الشيخ الوالد

ج ـ ديوان النتائج الفطرية في مدح خير البشرية

د ـ رحلة المسماة ب (مطالع البشارة في رحلتنا إلى الحرمين لأداء فريضة الحج وسنة الزيارة) التي تحتوي على 313 بيتا.

هـ ـ نصيحة الأتراب في النهي عن مكارم الآداب

و ـ إرشاد السائل إلى تهذيب الخطب والمسائل

ز ـ القصيدة الرائية.

هذه إشارة إلى أهم ما ألفه الشيخ سيدي جابي من كتب علمية لها فوائد جمة. يجب الاهتمام بها وقراءتها ودراستها.

وربما تمثل هذه القصيدة الرائية من القصائد الأخيرة التي نظمها الشاعر. لقد نظمها لدى قدومه على مدينة طوبى امبكي، لزيارة الخليفة العام الشيخ الحاج محمد المنتقى امباكي، خلال عام 2021، وعدد أبياتها 24. يقول فيها مادحا الخليفة:

هل بدرُ تمٍّ أنار البدو والحضرا وعمّ نشر سناه الخاصَّ والزمرا

أم إن سيدنا المعوان قدوتَنَا خليفة لخديم المصطفى ظهرا

(محمد المنتقي) بعم الخليفة وال هادي الذي يرشد الطلاب والنظرا

ينهى ويأمر فيما كان ينفع في (سنغال) يسعى لوجه الله دون ورا

بنى المدارس نصحا والمساجد في (طوبى) وفي غيرها فلنُمْعِنِ النظرا

كأنه اليوم في ( سنغال) أجمعها إنسان عين يُرى في الرأس إن ظهرا

وكان غيثا مريئا في خلافته وينصح الكل ممن جاء معتذرا

يا دهر ته بإمام ليس ينكره أحد من الناس إلا حاسد زُجِرَا

بحر محيط عميق القعر ساحله يكفي لمن يبتغي الياقوت والدررا

هاك القصيدة يا خير الخليفة من أخٍ محب لكم من أقدم الشُّعرا

أنا محبكم ابن المحب لكم ابن المحب لكم وحُبُّكُمْ ظَهَرَا​

بعض إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية:

أشرنا إلى شيء من إنجازاته العلمية الكثيرة المفيدة من المستحسن أن يعرف القراء أنه كان مزارعا كبيرا. وكان يتمتع بمهارة فائقة في الأعمال والفنون الزراعية وكان ينفق فيها كل عام أموالا طائلة. لذلك كله قد أقام في قرية كَمُّويا، مع طلابه بأمر من والده من سنة 1960 إلى سنة 1976، بقصد تربية الأجيال وتعليمه وتكوينهم في العمل والزراعة. وربما كان الشيخ يريد أن يعلم الذين لا يعرفون أن مراكز التعليم العربي والإسلامي بمثابة معامل لتصنيع رجال صالحين للدين والحياة بكل ما تملك هذه الكلمات العربية من معنى. ثم أسس فيما بهد بإذن وإشراف من والده قرية تسليم عام 1976م لنفس الغرض: تعليم وتكوين وعمل وعبادة. لقد أصبحت قرية تسليم بفضل الله، كبيرة معمورة بالسكان، يصل عدد بيوتها إلى حوالي تسعين بيتا، وفيها مدرسة إسلامية كبيرة يتعلم فيها أكثر من مائتي طالب يتلقون فيها الدراسات العربية والإسلامية. قمنا بزيارة مدرسته في شهر مارس عام 2022.

وبعد وفاة والده قام الشيخ سيدي جابي بتأسيس قرية سماها “دار الدين” وتبعد عن تسليمَ حوالي 20 كيلو مترا، وجعلها مركزا هاما للتربية والتعليم العالي والتكوين والتدريب على العمل الزراعي. وفيها زهاء مائة وخمسين طالبا استنادا إلى قول الأستاذ عبد الأحد ساني، يتلقون فيها العلوم الشرعية ومختلف الفنون اللغوية بمستويات ومراحل متعددة. كان الشيخ سيدي جابي بلا شك، من كبار الشعراء السنغاليين ومن أبرز الذين وقفوا حياتهم لخدمة الإسلام واللغة العربية والثقافة العربية وإن كانت الكثرة المطلقة، فيما نعتقد، يجهلون ذلك. كان يبذل قصارى جهده وما يملك من قوة وعزم وحزم، ليل النهار لنشر العلم والإسلام وإعداد الأجيال إعدادا صالحا. كان قدوة للجيل الجديد وخاصة الدارسين في مراكز التعليم العربي الإسلامي. فما أصدق الشاعر العربي القديم قال :

والموت نقاد على كفه جواهر يختار منها الجيادا.

لقد ظل الشيخ سيدي جابي يدرس ويربي ويلقي محاضرات في المواسم والحفلات الدينية. وظلت ساحته كعبة الجماعات والأفراد بشتى طبقاتهم وحوائجهم من طالبي الدعاء والمتبركين من شتى البلدان والقارات بغية الاستجابة الإلهية.

إن هذا الشيخ الجليل والعالم الكبير والشاعر المطبوع والكاتب القدير هو الذي استأثر رب العالمين، يوم الأربعاء العاشر من مايو آيار عام 2023. رحمه الله رحمة واسعة. ومهما أنس، فليس من الممكن أبدا، أن أنسى، زيارتي له في داره في شهر مارس عام 2022 ضمن رحلاتي للبحث عن المخطوطات وتاريخ المراكز الإسلامية السنغالية. لقد استقبلني يومئذ مع الوفد المرافق لي، ودليلي، معلم القرآن الكريم، وممثل الرابطة الوطنية لاتحاد المدارس القرآنية في السنغال بمقاطعة بونكلين، الأستاذ سَيْدِي الذي أسس مدرسة قرآنية في مدينة وانديفا. استقبلنا الشيخ الشاعر والكاتب ضحى ذلك اليوم وتحدث إلينا، بابتسامة وبشاشة، عن شيء من نشأته وتعلمه وتجاربه وتنقلاته ومؤلفاته وما أنشأ من قرى. وفي نهاية المقابلة أهدى إليَّ جميع مؤلفاته المطبوعة. لقد تعجبت في ذلك اليوم بسخاء الشيخ العلمي. إن بشاشته تذكرنا بقول الشاعر:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المالث والولدُ

أنا أظن، بل أكاد أقطع أن العديد من السنغاليين وربما الكثرة المطلقة من المثقفين منهم لا يعرفونه كما ينبغي. اعتقد مخلصا أن الكثيرين من السنغاليين لا يعرفون حتى الآن ما تحتويه المنطقة الجنوبية كاسماس من مراكز علمية عظيمة فيها علماء كبار وأجلاء، شعراء وأدباء، لهم إسهام ملحوظ في الأدب السنغالي العربي. سيظل كاتب هذه السطور يتذكر لقاءه معه ويستفيد من تسجيل كلماته الرنانة في ذلك الضحى.

لقد كنت أيها الشيخ الجليل، والفقيد العظيم، دعامة من دعائم الإسلام والعلم والثقافة واللغة العربية في سنغامبيا وغينيا كوناكري. وليس عجيبا، لمن يعرفكم، إذا كان رحيلكم من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة بمثابة نازلة في أوساط الأمة الإسلامية، مؤكدا ما قاله الشاعر: وما قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما.

من المؤكد أن وفاة شيخنا الجليل ستترك في كاسماس وفي الأمة الإسلامية عامة فراغا أي فراغ، ولفترة، من يدري، ربما تكون طويلة مديدة. أنا متيقن أن المراكز الإسلامية في منطقة كاسماس لم تنل إلى حد الآن ما تستحقها من الدراسات والأبحاث. ذلك أن فيها بيوتات دينية في حاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث والتحقيق والتحليل والنشر. ولو فعلنا لأضفنا إضافة عظيمة إلى مكتبتنا الإسلامية السن

باحث ورئيس قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية في المعهد الأساسي لإفريقيا السوداء، جامعة شيخ أنت جوب دكار، السنغال

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى