
الأزمة التربوية في مدارسنا: الواقع و البدائل
الدكتور عبد الأحد لوح
تَلفِتنا واجهة المشهد الإعلامي في هذه الليالي إلى أخبار متواترة عن ظاهرة الانحراف السلوكي لدى جمهور من طلاب المدرسة السنغالية في مختلف المراحل الدراسية. ولقد وصلت خطورة الوضع إلى حد ارتكاب اعتداءات جسدية عنيفة ضد عدة مدرسين في أماكن وأزمنة متفرقة، فضلا عن الاحتفاء بنهاية العام الدراسي بشكل يتنافى مع مقتضيات الأدب والخلق والذوق ؛ مما يثير لدى المراقبين كوامن القلق، وعلامات التعجب والاستفهام، وفي الوقت ذاته يكشف عورة المنهج الدراسي المطبق في مدارسنا والذي ظل يركز لأكثر من نصف قرن على التعليم النظري المتعارض مع قيم التربية والتهذيب والإرشاد؛ وفقا لهويتنا الدينية وثوابتنا الثقافية.
وأمام هذه الوضعية المتأزمة تدعونا الغيرة على حاضر البلاد ومستقبلها إلى ضرورة بحث القضية من منطلق مُساءلة المُدخلات والمُخرجات على أساس عناصر المنهج المعمول به حاليا في نظامنا التعليمي بما يساعدنا على وضع اليد على واقع الأزمة؛ سعيا للتوصل إلى بدائل وحلول ناجعة من شأنها أن تعيد التوازن إلى منظومتنا التربوية.
وفي فاتحة هذه النظرات التحليلية، أراجع معكم ما أكده السيد مبي تيام وزير التربية الوطنية السابق في شهر فبراير 2014 بمناسبة الحفلة الافتتاحية لورشة تنسيق إطلاق جلسات التربية: ” إن المدرسة السنغالية لم تعد تستجيب لمهمتها؛ إنها لم تعد تعلم جيدا، بسبب الإضرابات المتكررة التي تهزها، ولم تعد تربي بما فيه الكفاية؛ لأنها أصبحت موضعا للتعبير عن أزمة القيم التي تمر بها مجتمعاتنا، ولا تكون بما فيه الكفاية؛ إذ إنها لا تلبي حاجة بلادنا إلى الأيدي العاملة. إن التربية تجتاز اليوم أزمة مزدوجة : أزمة التوجه، وأزمة الثقة ” (التقرير النهائي لجلسات التربية)
ويكفي كلام السيد الوزير خلاصة معبرة عن الأزم ة بكل أبعادها، ويبقى السؤال المتبادر إلى الأذهان هو : ماهي مصادر أزمة التربية الوطنية؟
أولا : مصادر أزمة التربية الوطنية.
تعود جذور الأزمة في نظامنا التربوي إلى أن المستعمر عند ما رحل عن السنغال خلف وراءه مدارس فرنسية في السنغال وليست مدارس سنغالية، ولم يكن لذلك النظام التربوي الفرنسي الموروث علاقة وثيقة بواقع المجتمع السنغالي وقيمه وتراثه وتطلعاته، وقد اضطرت دولة السنغال إلى التمسك بذلك النظام؛ إذ لم يكن لديها من الوسائل والإمكانيات ما يمكنها من بناء نظام تربوي على أنقاض النظام الموروث من فرنسا؛ فكانت مدرستنا في العهد الأول من الاستقلال نسخة طبق الأصل من المدرسة الفرنسية، أي أنها كانت مدارس فرنسية في السنغال، ولم تكن مدارس سنغالية.
ويبدو أن السعي إلى تقويم الخلل المتمثل في غربة المدرسة الموروثة من الاستعمار الفرنسي يشكل منطلق الحركات الإضرابية والإصلاحية في تاريخ التربية الوطنية:
1- حيث احتل مكانة مرموقة في قائمة شكاوى الطلاب المُضْربين في شهري مايو ويونيو من عام 1968م أولئك الذين نادَوْا إلى إصلاح التعليم وضرورة تكييفه مع واقع المجتمع السنغالي الأفريقي وحاجاته المتجددة إلى التنمية الشاملة؛
2- لعل هذه الهزة الاجتماعية الرهيبة التي حدثت بفعل الإضراب العام آنذاك ، كانت وراء إقدام السلطات على إصدار أول حلقة من إصلاحات متتالية في نظام التعليم بالسنغال، ابتداء بالقانون التوجيهي رقم 71- 036 الصادر في 3/ يونيو عام 1971مloi d’orientation الذي ركز على إحياء الثقافة الأفريقية من جهة، وعلى ضرورة الاستفادة من ثمرات العلوم والتكنولوجيا التي تشكل مفتاحا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، من جهة ثانية، عبر قاعدتين راسختين هما” الأصالة والانفتاح” وكان من مؤشرات ذلك ” أَفْرَقَة” و”سَنْغَلَة” محتويات بعض المواد مثل التاريخ والجغرافيا والأدب. وفي الوقت نفسه، تم إدخال اللغات الوطنية في البرنامج الرسمي؛
3- في زخم هذه التحركات الإصلاحية المتعاقبة، عقد مؤتمر الأحوال العامة للتربية والتكوين في عام 1981م، حيث توصل المؤتمرون إلى تحديد ملامح “المدرسة الجديدة” التي من أهمها :
أ- إقرار الطابع الوطني والديموقراطي والشعبي للتربية الوطنية؛
ب- إدخال اللغات الوطنية وتطويرها في إطار المدرسة الجديدة؛
ج – إدخال التربية الدينية في المدارس العمومية؛
د- الاعتراف بأهمية اللغة العربية وضرورة تطويرها في النظام الجديد؛
هـ – إنشاء اللجنة الوطنية لإصلاح التربية والتكوين(CNREF) والتي من مهامها صياغة قانون توجيهي جديد ” إلا أن إصدار ذلك القانون واجه عقبات عويصة حكاها البروفيسور ” إيبا دير تيام” وزير التربية آنذاك بقوله: ” إن ” جان كولينJean Colin ” الأمين العام السابق لرئاسة الجمهورية كان يعتبر المدرسة الجديدة من قَبِيل الوهم والخيال؛ فعرْقل صدور نص القانون التوجيهي؛ إذ ما كان يعجبه قضية تطوير اللغات الوطنية ؛ ومن أجل ذلك أفسد برنامجي”!
و- إصدار القانون التوجيهي 91/ 22 في 16 فبراير 1991م: loi d’orientation 91/22 الذي سنعود إليه؛
4- وفي السياق ذاته عقدت جلسات التربية والتكوين لعام 2014م وسنعود إلى نتائجها.
ورغم هذه المحاولات إلا أن الأزمة ظلت قائمة، و تكاد تلامس جميع مكونات الحياة التعليمية. (يتبع)