Articles

وداع على باب الكلية: وصاة لخوض معترك الحياة!

د محمد سعيد باه

منذ حوالي ثلاثين سنة انصرمت وقفت موقفا يضاهي هذا الموقف، يومها قال لنا أستاذ، كان شديد الحدب علينا بقدر ما كنا متعلقين به واثقين في قدراته العلمية، قال لنا كلمات لا تزال عالقة في الذهن، بل أكاد أسمع رنينها وأنا أمامكم:

يا هالة النور سيري إثر هــــــــالات * مرت تشق دياجير الجهــــــــــــــــالات

صيحـوا على كل قومن غافلين فمــن * صوت الهدى يختفي صوت الضلالات

كان دأبي، في نهاية كل سنة جامعية، وذلك منذ أن وطئت قدماي عتبة الكلية، أن أرتجل بعض النصائح والتوجيهات وأزجيها لكم، لكن هذه المرة آثرت، لتكاثف الهموم ولدقة الظرف الذي نمر به جميعا، أن أحرر لكم بعض الكلمات علها تكون أكثر التصاقا بالذاكرة وأسهل استحضارا.

أحبتي في الله! قد لا أكون أفضل من يقف هذا الموقف في هذه اللحظة الفارقة من حياتكم وحياة هذه القلعة العلمية التي جعلتني أتفاءل كثيرا لإمكانية استئناف مسيرة مباركة انطلقت من هنا، منذ ما يربو اليوم على أربعة قرون، يوم حط القاضي اللبيب العلامة عمر فال رحاله هنا قادما من ضفاف نهر السنغال ليضع اللبنة الأولى لبناء صرح حضاري مترامي الأطراف غزير العطاء.

هذا هو الشعور الذي انتابني يوم كنت أؤم هذه الكلية لأول مرة كي أضرب بسهم في تكوين جيل من أبناء المنطقة، قرر إخوان لنا في الدعوة والإصلاح، أن يهيئوه للنهوض بمهمة استعادة المبادرة الحضارية في هذه البلاد التي عانقت دين الحق وألفته وتشبثت بأذياله وهامت به حبا وأخذت وأعطت في ظلاله الوارفة التي تفيأتها.

بعد أيام ستخطون سالكين أيها الأحبة، وأنتم مغتبطون، دروب العودة إلى دياركم وأنتم تحملون في جعبكم قدرا من المعرفة وقدرا من الخبرة في الحياة وقدرا من الأحلام الوردية، وكلي أمل في ألا تذوب تلك الأحلام حين تصطدم بجدار الواقع الصلد أو حين تلفحها حرارة الكدح لكسب لقمة العيش…

وأكاد أرى من موقعي هذا الاستقبال والحفاوة اللذين سيحظى بهما كل واحد منكم وقد عاد متأبطا كتبه وكراريس أمضى أعواما يسودها، وأكاد كذلك ألمس التغيير الجذري الذي سيطرأ على نظرة الناس إليكم وعلى نظرتكم إليهم وإلى أنفسكم قبل ذلك وبعده.

وكم هو جميل أن يكسب المرء جولة في الحياة، وكم هو جميل أن يعود الإنسان إلى دياره بعد غربة مع الكتب وفي تلمس طريق المعرفة، لكن من الخطإ أن يعقب ذلك الإخلاد إلى الراحة والتصور بأن لحظة الحصاد قد حان دون أن يفكر في موسم الزراعة القادم ليأخذ للأمر أهبته.

لا تتركوا للقاعدين فرصة كي يضعوا قيودا على طموحاتكم، ها أنتم اليوم تحملون قسطا، ولو ضئيلا، من ميراث النبوة وقد يكون لكم نبراسا للسير في دروب الحياة وأنتم مهتدون بإذن الله وذلك متى قرنتم العلم بصنوه “العمل”، لكن ذلك يتطلب ألا تسمعوا قول القاعدين والكسالى والحائرين والمترددين ومن تقاصرت طموحاتهم وذبلت إرادتهم.

أطلقوا لأشواقكم مداها! لا حظوا أن كل خطوة جبارة غيرت مجرى التاريخ، كانت في لحظة ما مجرد حلم مستكن في عقل أو ضمير شخص لكنه لم ييأس وإنما اختار طريق الكفاح حتى تحول إلى حقيقة، وهنا أسوق لكم التعريف الجميل للعبقرية الذي صاغه أحدهم على هذا النحو: الجميل في العبقري أنه يشبه الجميع لكن لا أحد يشبهه!

خذوا من الماضي أصيله واعبروا به الحاضر وعيونكم مفتحة على الواقع، وأنتم في كامل الوعي مع قوة الحضور، لتشييد مساكن المستقبل، وكنت قد حاولت أن أجلي لكم، في مناسبة سابقة، الخيار الصحيح في بناء المستقبل، وكان مما قلته لكم يومها:

«إن الرنو إلى المستقبل ليس مجرد تطلع إلى حيز زمني آت، لكنه القدرة على الإمساك بتلك الخيوط الخفية التي تشد خيمة الحياة، ولا تلك المخاضة المقززة أو تيهاء نخشى الهلاك فيها، بل هو ذلك النوع من الكسب الذي نحققه بسطوة أيادينا وخطو أرجلنا على نار قلوبنا وضوء عقولنا».

كان أحد كبار المربين يقول لنا: ثمة شخصان فقط يرتاح المرء أن يتفوقا عليه، هما ابنه وتلميذه، ومرد ذلك ببساطة أن كل واحد منهما امتداد لوجود الإنسان من الناحيتين المادية والروحية، ونحن لا نشذ عن هذه القاعدة فنرى فيكم وفي من سبقكم وفي من سيلحق بكم، بإذن الله، من طلاب المعرفة، عمرا ثانيا لنا؛ إذا، فلا تحرمونا من المتعة حين نلقاكم وقد كللتم جهودنا المتواضعة بدرر التفوق وأوسمة النجاح، ويومها نشير إليكم مغتبطين: كان هذا أو كانت تلك من تلامذتي!

عسانا، أنا وزملائي، أن نلقاكم يوما ما في فجاج الحياة وأنتم تعتلون أرقى المدرجات في أعرق الجامعات، أو نلمحكم عن بعد وأنتم تتبئون أعلى المراكز في مجتمعاتكم وأنتم تشاركون في تحرير القرار الجماعي وإدارة دفة الحياة من موقع القوة.

والخلاصة، في هذه النقطة، لا تقبلوا أبدا أن تتسكعوا على هامش المجتمع، بل عليكم أن تكونوا من صناع الحياة البارعين فيه، ولكي يتأتي لكم تحقيق ذلك الهدف النبيل عليكم أن تحيوا في قلب المعترك الصاخب وأنتم تؤثرون على أنفسكم وأن تعيشوا للآخرين وأن تفضلوا العطاء على الأخذ…

وفي هذا المقام تحضرني كلمات جدتي، يوم كانت مهمومة في أن تلهب فينا الرغبة الدافقة لكسب أعلى معدل من المعرفة، وكانت تصوغ نصيحتها على هذا النحو البسيط والدقيق: تعلموا، فإن قليل العلم يستر والكثير منه يُملِّك!

وهل من ملك أعظم تاجا وأثمن صولجانا من العالم؟ أعني به ذلك العامل القوي العزيز النبيل، وليس المرتزق المتكفف الذي يبرع في لي أعناق النصوص ولا يتورع أن يكتب بيديه ثم يقول: هذا من عند الله ليشتري، بما كتب أو يبيعه فتوى كاذبة ثمنا قليلا ولو كان ملايين مملينة.

فلتتيقنوا من أن مجتمعاتكم في انتظار عودتكم، وهي تظن، بل تجزم، بأنكم فقهتم في دين الله، وقد حانت لحظة الأوبة لتحذروها، ولكن لا تنسوا أنها تعاني كثيرا من الأدواء وقد اجتاحت ديارها الأوبئة وعصفت بها المحن، وهي اليوم تتطلع إلى من يأخذ بيدها ليعود بها إلى حمى دينها، وكلي ثقة في أنكم تحملون هذا الهم، والله أسأل أن يمدكم ببسطة في العلم والإرادة للنهوض بهذه المهمة الرسالية.

وهنا أهمس لكم: أحسنوا بهم الظن ونقبوا عن مكامن الخير فيهم، لا تستعجلوهم فيعجزوا، ولا تشددوا عليهم فينفروا، ولا تحملوهم العنت ولا ما لا طاقة لهم به فينكسروا، ولا تحجروا عليهم الواسع فيتحرجوا، ولا تستوردوا لهم الحلول فيضلوا، بل: يسروا وبشروا، وضعوا البلسم الشافي على الجرح النازف، لا تنتزعوا ما بأيديهم مما ألفوا فيتطرفوا بل أعطوهم البدائل الحسان ترونهم يتخلون عن التافه طواعية ويحتفوا بالصحيح عن قناعة، هاكم وصية الشاعر المجرب:

لا تقل عن شيء ذا ناقص * جئ بأوفى ثم قل ذا أكمل!

وأعيذكم بالله من أن تسيئوا تفسير مفهوم “التخرج” وتكونوا بذلك ممن خرجوا من حلبة المسارعة للوصول إلى ذرى المجد، فها أنتم اليوم تقبضون بمفاتيح كنوز المعرفة، وكل شيء يتوقف على حسن استخدامكم لها، ولا تغرنكم الألقاب الرنانة ولا يجرفنكم اللامع من الأسماء، عليكم بالجاد والنافع والنفيس، ففي ذلك عوض وأي عوض عن كل زخارف الحياة التي يتكالب عليها الناس.

تذكروا دائما بأنكم خضتم امتحانات متلاحقة وشاركتم في سباقات عديدة وفي كل منعطف كان رفاق لكم، وربما كانوا أحد منكم ذكاء وأمضى عزيمة، يتساقطون عبر المراحل وتأخذ العناية الإلهية بنواصيكم لتقود خطاكم إلى المحطات التاليات، هل تنسون شكر المنعم المتفضل في هذه اللحظات؟ أو تتقاعسون عن المضي في طريق تحقيق المزيد من الكسب؟ ولا إخالكم تفعلون!

هل لي أن أطرح عليكم هذه الأسئلة البسيطة: أأنتم مستعدون لخوض معترك الحياة وأنتم موقنون بالنصر؟

أعقدتم العزم على رد الدين الذي على عواتقكم لمن ضحى وبذل من آباء وأمهات وإخوان وأساتذة وفضلاء وذوي أيادي بيضاء امتدت لكم عن بعد، لا تعرفونهم لكن الله يعرفهم، وهو يحتسبون عند الله الأجر ووثقوا بكم يوم كاد الآخرون أن ينفضوا أيديهم منكم يأسا؟

أيمكنكم أن تعاهدوا ربكم وتعاهدوا أمتكم بأن الأمة لن تؤتى من الثغرة التي تقفون فيها؟

ولا يغرنكم أن يقال عنكم خريج جامعة أو حامل شهادة، اصنعوا من معارفكم نعالا تعتلونها ولا تجعلوها تيجانا فيحطكم ثقلها، وبدلا من تسلق المرتفعات حيث ستكونون منارات تهدي السائرين، تأخذون طريقكم نحو المنحدرات ثمة ستصبحون عقبات تسد السبيل.

تذكروا دائما أن قليل علمكم دليل دامغ على رحابة جهلكم، واحفظوا هذه الحكمة البالغة: رقى خطيب المنبر فسئل عن شيء لا يعلمه، فأفتى بأدق وأصح فتوى دبجت قائلا: لا أعلم! ولما شغب عليه أحد السفهاء من الحضور وقال له: إذا، انزل لأن هذا المنبر للعلماء وليس للجهلاء، رد عليه وألقمه حجرا: إنما رقيت بقدر علمي ولو رقيت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء؛ ما أجمله من فهم وأفحمه من جواب!

عيشوا هموم أمتكم واصطلوا بنار معاناتها، إياكم أن تمتطوا مطالبها لتحقيق أحلامكم أو لإشباع رغباتكم، عليكم أن تنحازوا إلى صف الحق وأن تنضموا إلى حزب العدل وأن تناصروا الضعفة والمظلومين وأن تأخذوا بأيدي التائهين إلى سواء السبيل برفق وحنان ولا تكونوا مع الظالمين ولا من أعوان الظلمة.

كرموا العلم بأداء حقوقه، ومن أولى حقوقه عليكم صونه من الابتذال والعمل به وبذله لمن يرغب ونشره لمن لا يرغب وتزيينه له حتى يعشقه وينعطف إليه ثم التزين والاعتزاز به دونما تفاخر مذموم ولا تباه ملوم.

اطلبوا الزاد لخوض معركة البناء الحضاري، ولا زاد مثل تقوى تعصم من الزلل، ولا زاد مثل العلم المؤصل يحمي الفكر، ولا زاد مثل الخلق الحسن، ولا زاد مثل العمل الصالح، ولا زاد مثل الجماعة الصالحة التي تحوطك وتعينك على الخير وتدلك على مكامنه وتعينك على الاستقامة على منهج الله.

أرجوكم! ثم أرجوكم! لا تقنعوا بالقليل وأنتم تستطيعون جمع الكثير، ولا ترضوا بالضعف وأنتم أقوياء، ولا تقفوا عند أولى درجات السلم وأنتم تستطيعون الوصول إلى الذرى قفزا، وأكرر هنا ذلك البيت الذهبي الذي طالما ألقيته على مسامعكم، وهو للمتنبي إمبراطور الشعراء:

ولم أر في عيوب الناس عيبا * كنقص القادرين على التمام

إذا راق لكم أن أو طمعتم في حيازة سهم من الإمامة، فعليكم أن:

تكونوا: ربانيين بما كنتم تدرسون الكتاب، إذا أردتم أن تسودوا ولا تداسوا.

تكونوا: شهداء لله بالقسط، إذا أردتم أن تكونوا من أمناء الله على رسالته.

تكونوا: على مستوى رسالتكم، إذا أردتم أن تستحقوا شرف حمل ميراث النبوة.

تكونوا: من يفقهون مجتمعاتكم، إذا أردتم أن تبلغوا رسالة الله بصدق وأمانة واقتدار.

ولن أختم وصاتي هذه بأفضل من أبث لكم مشاعري، وأكاد أجزم بأنها مشاعر زملائي:

في يوم من الأيام، وأنا أحدثكم من فوق أحد المنابر، عن إحدى هموم الأمة، جاءتني من أحدكم قصاصة صغيرة فيها عبارة قصيرة لكنها كانت قوية الأثر في نفسي عظيمة الدلالة عندي، كان فيها: يا أستاذ أحبك في الله!

وها أنتم تعطونني الفرصة بهذا اللقاء لأقولها لكم ملء في: أحبكم في الله، وأستودع الله دينكم وخواتيم عملكم، ,وأبتهل إليه، جل في عليائه، أن يسدد على طريق الحق والخير والهدى خطاكم.

  وفي هذا المقام، نستشعر الظرف الدقيق الذي يمر به أناس طوقوا رقابكم بمنن لن تؤدوا حقها مهما فعلتم، نتذكر هنا الشعب الليبي الكريم الذي يتعرض اليوم لفتنة هوجاء، وهي سنة الله الماضية في خلقه، وهنا نرفع أكف السؤل في ضراعة وطمع: جبر الله كسرهم وحقن دماءهم وآوى شريدهم وجمع شملهم وألف على الخير بين قلوبهم ورد عنهم كيد الكائدين وأخذ بأيدهم إلى بر الأمان.

وأجمع وأنفع ما وصى به أحد لمن يريد له الخير ما قاله المصطفى (صلى الله عليه وسلم):

“اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”.
سيروا على بركة الله وأنتم في سابغ كلاءة الله اbasaide@yahoo.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى