Articles

وداعًا يا عولمة! ‏

د. عبد الحي زلوم/ مستشار ومؤلف وباحث

سيكون هناك نظامان اقتصادي وسياسي جديدين بعد كورونا.. ‏وهذه فرصة للدول النامية المرهقة بالديون لتحويل الأزمة الى فرصة ولكن المطلوب أولا وثانيا وعاشرا هو إرادة التغيير..‏ ‏ولتغيير النتائج نحتاج إلى تغيير المناهج

يقول ديفيد ستوكمان David stockman. ” ‏كان فيروس كورونا هو فقط الدبوس الذي فجر الفقاعة، وسبب في الآلام للكثيرين نتيجة تهاوي الأسعار ‏في اسواق المال… بالاضافة الى الاعداد الكبيرة للديون غير العاملة، ولتحطيم احلام 30 سنة من الازدهار الأمريكي ‏الكاذب المعتمد على طباعة الدولارات بدون غطاء حقيقي لتحقيق ازدهار كاذب قد توقف وبطريقة فجائية صادمة. ‏وكل هذا يقودنا إلى الاستنتاج ان نظاما آخر قد أصبح من الضرورات.” واضاف: “أن ما كان يبدو وكأنه اقتصاد مزدهر كان ممزوجا ‏بالعفن في داخله. تغول الاقتصاد المالي على الاقتصاد المنتج وازدهرت المضاربة بتشجيع من البنك المركزي والسياسيين في واشنطن ‏فتحول بذلك شارع المال وول ستريت الى كازينو قمار خطر تاركين الجماهير ‏تنوء بالديون ‏بتشجيعها أن تصرف اكثر من إمكانياتها. ‏والآن جاء فيروس كورونا لتفجير هذا العفن فاصبح واضحاً وجلياً للجميع.” ‏وهنا أقول : لكن يبدو ان الامر ليس واضحا لبعض العرب الذين ينطبق عليهم المثل الأمريكي (ليس هناك أكثر عَماً من الذين لا يريدون ان يبصروا)‏.
‏وهنا علي أن أبين نقطتين، ‏‏أولاهما ‏انه قد شهد شاهد من اهله فديفيد ستوكمان هذا كان احد أركان إدارة الرئيس ريغان ‏حيث انطلقت الرأسمالية المتوحشة باسم الريغانية وكان ستوكمان يشغل أحد أهم مناصبها في وزارة المالية وهو مكتب الادارة والميزانية. وثانيها ان ما كتبه ستوكمان الاسبوع الماضي كان ما كتبته قبل 22 سنة في اول كتاب اصدرته بعنوان نذر العولمة The globalization gospel ويمكن قراءته بالانجليزية مجانا على الانترنت.
‏كنت سنة 1996 ‏ في Mayo Clinic في مدينة روتشستر بالولايات المتحدة ‏اقوم بفحوصات روتينية سنوية. ‏كنت قد اشتريت كتابا بعنوان( مستقبل الرأسمالية ) من مكتبة في مطار شيكاغو، وكان الكاتب عميد كلية الاقتصاد في إحدى أعرق الجامعات الأمريكية وهي أم أي تي MIT . ‏ولاني كنت كثير الأسفار آنذاك كنت دوما اشتري الكتب لقرائتها أثناء رحلات الطيران وفي الفنادق. جاء في هذا ‏ ‏الكتاب ما فاجأني عن اسباب انهيار الاقتصاد المكسيكي سنة 1994 .


اسباب الازمة :
سبب الازمة لم يكن من المكسيك وادارتها للاقتصاد وإنما كان نتيجة سياسات صناديق الاستثمار الامريكية. فالمكسيك قامت بكل ما هو مطلوب منها للتناغم مع العولمة والسوق الحرة. وقد أنيطت ادارة الاقتصاد الى رجالات واشنطن من المكسيكيين فحرروا الاقتصاد ووضعوا خطط خصخصة شاملة وضخمة وحرروا الاسواق المالية وألغوا الحواجز التجارية وقلصوا الدعم الحكومي الذي تقدمه الدولة للشعب كما عمدوا الى تخفيف القيود والضوابط على التجارة والانشطة التجارية ووقعوا اتفاقية النافتا NAFTA عام 1993 (الاتفاقية الخاصة بالتجارة الحرة لدول اميركا الشمالية) .
وقد ظل مستوى المعيشة بالنسبة للمكسيكيين في تراجع طيلة ثلاثة عشر عاماً في ظل تطبيق سياسات )واصلاحات( السوق الحرة تلك ، بل واعلنت صحافة وول ستريب بان المكسيك مثال صالح يحتذى به.
لما كانت معدلات الفائدة في الولايات المتحدة متدنية وفي المكسيك مرتفعة ، فقد كان في ذلك فرصة ذهبية لمدراء صناديق الاموال الاميركيين للقيام بأعمال المراجحة حيث يقترضون الاموال في الولايات المتحدة ويستثمرونها في المكسيك. وكان من ثمار هذا الهجوم على السوق المكسيكية ان تضاعفت اسعار الاسهم هناك اربع مرات في غضون 2-3 سنوات وكان ما استخدموه في الاقتصاد الحقيقي المنتج في المكسيك يعادل 25 % فقط من كل الاموال الاستثمارية ، اما النسبة الباقية وهي 75 % فقد سخرت للمضاربات وفي عمليات الاسواق المالية.
وعندما رفعت اسعار الفائدة في الولايات المتحدة بدءاً من مطلع عام 1994 كان لدى المكسيك من الاحتياطيات الاجنبية 25 مليار دولار . ولكن الهجرة المستمرة لرؤوس الاموال المضاربة العائدة للمولين الدوليين استنـزفت الاحتياطيات آنفة الذكر فيما خسرت العملة الوطنية المكسيكية حوالي 50 % من قيمتها في غضون اسابيع قليلة . ونتج عن ذلك انصهار اقتصادي أكل الاخضر واليابس . ولما تصاعدت الازمة وبلغت ذروتها نهايات عام 1994 كان احد خيارات المكسيك ان تتوقف عن الدفع ، وكتب الكثيرون بمن فيهم اقتصاديون اميركيون بارزون ان ذلك كان خياراً جيداً قابلاً للتطبيق وربما كان الخيار الافضل من ذلك الخيار الذي تبنته المكسيك أو أجبرت عليه ألا وهو طلب المساعدة من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي .‏وهنا نذكر القائمين على الأمر في لبنان أو الأردن أن هذا الخيار يجب أن يكون مطروحا في أولويات وخطط الخروج من الأزمة المالية التي تواجههما . ذلك لأن ما يسمى بخطط الأنقاذ هي فعلا خطط إنقاذ ولكن للممولين العالميين ليتمكنوا من سحب ما تبقى لهم من ديون هي في واقعها جزءٌ يسير من فوائدهم المركبة عبر السنين. ‏لكن هذا لن يحدث إلا إذا توفرت إرادة التغيير أي تغيير المناهج التي أوصلت البلاد والعباد ‏لتعمل فقط ليلا ونهارا لسداد فوائد الديون دون أي افق لسداد أصول الديون نفسها. ‏ومن أكثر ما يخشاه هؤلاء المستثمرين المضاربين هو كرة الثلج المتدحرجة .


حقائب الانقاذ لانقاذ المضاربين:
كان الممولون الدوليون هم المستفيدون الفعليون لأية حقيبة انقاذ لانها ستسمح لهم بأن يسحبوا ما تبقى من اموالهم من المكسيك. وكانوا يدفعون برجالاتهم في واشنطن وفي امكنة اخرى في العالم للتوصل الى خطة انقاذ وبسرعة كما كانوا يخشون من وقوع كارثة عالمية نظراً للنتائج الخطيرة والجسيمة على الاسواق المالية والممولين الدوليين . فقد تراجعت أسواق اميركا اللاتينية بواقع 38 % في غضون شهرين فقط .
جاء في التقديرات ان الحاجة ماسة لمبلغ 50 مليار دولار تقريباً لوقف الهبوط المريع للبيزو –العملة المكسيكية- ولكن ما هي الشروط التي رافقت حقيبة الانقاذ هذه ؟
يجب على المكسيك ان تخضع سياساتها المتعلقة بالعرض النقدي ، الانفاق المالي ، الاقتراض الاجنبي في المستقبل والائتمان المحلي الى الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة والتي تم املاؤها كجزء من خطة الانقاذ تلك .
يجب على المكسيك ان تبيع افضل ما لديها من موجودات مثل الموانئ ، السكك الحديدية ، البتروكيماويات ، الاتصالات …الخ ، لجمع مبلغ 12 مليار دولار . ويجب ان تبدأ عملية البيع على الفور بصرف النظر عما اذا كانت الاسعار قد اصبحت في الحضيض ومتدنية للغاية جراء الازمة التي مرت بها البلاد .
ينبغي على المكسيك ان تفتح الابواب لتملك الاجانب في بنوكها والتي لم يكن يسمح للاجانب بالتملك بها .
على المكسيك ان تودع كافة ايراداتها النفطية لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك .
ظن الرئيس المكسيكي ان هذه الشروط بالغة القسوة الى حد كبير الى درجة انه لو وافق عليها فستشير اليه اصابع الاتهام وكأنه قد تخلى عن سيادة المكسيك واستقلالها ، وانه قد حوّل بلاده الى مستعمرة اميركية . وكان الرد عليه بمنتهى الفظاظة بأن تلك هي الشروط التي ينبغي على المكسيك ان توافق عليها . اما النتائج التي تلت توقيع هذه الاتفاقية عام 1995 فكانت :
نتائج تطبيق فرامانات حزمة ( الانقاذ )!
تقلص الاقتصاد المكسيكي بواقع 7 % .
زيدت ضريبة القيمة المضافة Value Added Tax (VAT) الى 15 % .
تم تخفيض الدخل الحقيقي بواقع 33 % فيما قفز التضخم لتلك السنة الى 40 % بينما حدد سقف الزيادات بواقع 7 % كحد اقصى .
ارتفعت اسعار الفائدة في غضون عدة اشهر من 15 % إلى 130 % .
أصبحت نسبة 30 % تقريباً من كافة القروض في البلاد غير منجزة – لا تسدد في مواعيدها .
آل الى الانهيار ثمانية من أصل اضخم ثمانية عشر مصرفاً رئيسياً في البلاد واصبحت الحاجة ماسة لانقاذ الباقي على يد الحكومة .
اعلنت بعض الشركات الكبرى افلاسها وبلغ مجموع الشركات التي انهارت ما يزيد عن 8000 شركة .
سجلت اسعار الوقود زيادة بنسبة 48.5 % .
زيدت اسعار الطاقة الكهربائية بنسبة 32 % .
اصبحت الدولة التي كانت مكونة من صغار المزارعين وكانت من بين الدول التي تصدر المواد الغذائية عندما كان المزارعون يتلقون الدعم الحكومي ، اصبحت الان دولة مستوردة للغذاء معتمدة عليه من جارتها الشمالية الولايات المتحدة.
سجلت الجريمة تصاعداً كبيراً في معدلاتها.
وجد بنك بنكومر Bancomer انه بحاجة الى موقف سيارات يتسع لحوالي 75 ألف سيارة مرهونة لو استولى البنك على السيارات التي توقف اصحابها عن دفع اقساطها .
وتم دفع 10 % من اجمالي الناتج القومي للمكسيك كفوائد على الديون !
كان عميد كلية الاقتصاد المذكور اعلاه واضحا جدا في كتابه تعليقا على اسباب الازمة وطرق معالجتها فدعني اقتبسه كما جاء في كتابه :
“لو كانت المكسيك قد تخلفت ببساطة عن تسديد ديونها وأبت ان تتبنى حقيبة الاجراءات التقشفية التي أملاها عليها صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة ، فإنه من الواضح انها كانت ستعاني من انخفاض في الدخل الحقيقي للمواطنين ، وربما لن تكون قادرة على تمويل العجز في قيم الواردات ، ناهيك عن احتمال تراجعها مما يتمخض عنه تقليص المداخيل الحقيقية . ولكن ذلك كله قد حدث ايضاً تحت مظلة الشروط التي فرضها الصندوق والولايات المتحدة . وأسوأ من ذلـك ، وبالاضافة اليه ، فإن تلك الشروط اجبرت المكسيك على المرور بركود اقتصادي قاس بالاضافة الى ما لزم من التخفيض في الواردات” واضاف : “حقيقة الامر ، فإن حقيبة القرض البالغ قدرها 52 مليار دولار قد وفرت غطاء وحماية للصناديق الاميركية المشتركة اكثر مما وفرت للمكسيك ، بيد ان المكسيكيين قد تركوا في الساحة بمفردهم ليسددوا أعباء هذه الحقيبة وحدهم” .
حققت الولايات المتحدة بوسائل الاموال المضاربة ما عجزت عن تحقيقه باستعمال الوسائل الدبلوماسية او القوة الغاشمة . وكانت الشركات النفطية الاميركية في المكسيك قد ‘أُممت في العام 1939 وأصبحت شركة النفط المكسيكية بيمكس PEMEX المالكة والقائمة على ادارة صناعة النفط والغاز منذ ذلك الحين . وبالمقابل ، فقد فرضت حقيبة الانقاذ التي حاكت تفاصيلها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي عام 1995 شرطاً تلتزم المكسيك بموجبه برهن كافة الايرادات النفطية وايداعها كضمان لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي(البنك المركزي في نيويورك ). ورفض مسؤولو وزارة الخزانة الاميركية كفاية توقيع وزير المالية المكسيكي على صك الرهن ، فطلبوا توقيع شركة بيمكس ايضاً . وكان جزءٌ من “الوصفات العلاجية” التي حفلت بها حقيبة الانقاذ آنفة الذكر ان تقوم المكسيك ببيع مرافق القطاع العام المكسيكي ومنها مجمعات صناعة البتروكيماويات والغاز . وبعد أشهر قليلة كان على العراق ان يودع رصيد مبيعات النفط العراقي ايضاً في بنوك اميركية في نيويورك لتمويل مشتريات العراق من الغذاء والدواء تحت شروط قاسية. ولما كان الشيء بالشيء يذكر فإن العراق كان أول دولة في الشرق العربي يؤمم شركات النفط الغربية العاملة في بلاده . وهكذا استطاع الاستعمار الجديد وبأدوات العولمة ان يحقق حتى ما لم يستطع الاستعمار القديم من تحقيقه . .
عند رجوعي من الولايات المتحدة ‏وكنت أنذاك حوالي في الستين من العمر قررت أن اكتب كتابا عن العولمة باعتبارها هي الاستعمار الجديد .وكان ذلك أول كتاب اكتبه حيث كنت حتى ذلك الحين متفرغ لأعمالي . ‏تم نشر الكتاب كاملا في سبع جرائد عربية من الخليج وحتى لندن.‏ومن الطريف أن الكتاب كاملا ‏نُشر في حلقات من بعض الصحف ونقيضها مثل صحيفة بابل التي كان يديرها عدي صدام حسين و‏بعض الصحف المعارضة العراقية آنذاك ، ذلك لان الكتاب كان موضوعيا يأخذ الطابع العلمي بعيدا عن أي مهاترات او نفاق ‏. ‏كانت النتيجة التي توصلت لها في الكتاب أن العولمة هي الاستعمار الجديد ولا يمكن ديمومتها لانها وامبراطوريتها ستموت (بسكتة قلبية اقتصادية ) وكان ‏هذا هو عنوان احد فصول الكتاب . ‏
‏أول هزة في النظام الاقتصادي العالمي بدءا من فقدان سوق NASDAQ 50% من قيمته السوقية سنة 2000 تم لفلفة فقاعة هذه الازمة بفقاعة اكبر منها انفجرت سنة 2008 والتي كادت أن تطيح بالنظام المالي العالمي وتم لفلفة هذه الفقاعة ايضا بضخ ‏تريليونات ‏الدولارات من الهواء . ‏عندها كتبت كتابي (ازمة نظام – الراسمالية والعولمة في مأزق ) صدر الكتاب سنة 2009 ولما تحقق اكثر ما تم ذكره في كتابي الاول نذر العولمة سنة 1998 كتبت كتابا سنة 2010 بعنوان ( ازمة نظام/ العولمة بعد 10 سنين ) بينت ان ما توصلت اليه من استنتاجات قد تحقق .
الخلاصة :
ازمة 2008 لم يتم حل اسبابها وانما تم تأجيل انهيار النظام حيث بقي النظام منذ ذلك التاريخ يمشي ميتا الى ان جائه فيروس كورونا فكان أول ضحاياه ولن تنفعه مسكنات بل سينتج عنه انظمة سياسية واقتصادية بل واجتماعية بما فيها اعادة النظر في ثقافة الاستهلاك .
صدقوني أن أزمة الكورونا يمكن تحويلها إلى فرصة العمر وذلك بالنسبة للدول المرهقة بالديون كلبنان والأردن ‫للانتقال الى دول بلا عجوزات ولا مديونات. ‏ولكن خطوة الألف ميل تبدأ بخطوة والخطوة الأولى هي إرادة ‏التغيير.
من نتائج كورونا ومراجعة ثقافة الاستهلاك بالضرورة سينخفض سعر النفط .واذا تنبا صندوق النقد الدولي ان دول الجزيرة العربية ستصبح من الدول المقترضة بحلول سنة 2034 فأنا أقول انهم بعد كورونا واستمرارهم في نمط العيش والسياسة ما قبل كورونا سيصبحون من الدول المقترضة قبل سنة 2025 . وسيكون وقف الحرب في اليمن وتمويل الحروب بالوكالة من اسباب وضحايا كورونا .
لعل الله سبحانه وتعالى اراد ان يقول لعباده اخشوني ولا تخشوا عبادي المتغطرسين فهؤلاء وامبراطورياتهم وجيوشهم واساطيلهم وصواريخهم وقنابلهم النووية لا تستطيع ان تقاوم اضعف خلقي وهو فيروس لا تراه اعينهم وكأنه يقول سبحانه جاء وقت التغيير فأنا لا اخذل عبادي الصالحين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى