Articles

مقال: لا تهن الذكاءات ،ولا القدرات ، فكل ذكاء معتبر في بناء النظام التعليمي الشامل

د. محمد فاضل كان

غالبا ما يفضل أصحاب القرارات في صناعة السياسات التربوية، بله التعليمية، المواد العلمية على المواد الأخرى، أدبية كانت أو اجتماعية. هذا التصور الضيق، أو الخيار المنغلق في صناعة السياسة التربوية لدولة ما، تصور جد خطير، بقدر ما هو مبعد للمسار السوي الجامع في مضمار الطرح التربوي الشامل. والأدهى من ذالك، أن يدعو بعض هؤلاء- صناع القرار، واضعو السياسة التعليمية- إلى المحسوبية داخل المواد، ناهيك عن التخصصات! يعتقد البعض أن أولئك الذين يتوجهون، أو يوجهون نحو المواد العلمية لديهم فرص أفضل، وأسرع، للاندماج في سوق العمل عن أقرانهم الذين انحازوا صوب المواد الأدبية أو الاجتماعية.
وهذا التصور الخاطئ – في رأينا- لا يكاد يعكس حقائق الواقع، ولا يلبي الاحتياجات الحقيقية للسوق. الشيء بالشيء يذكر، أن هذا التصور يحط بشكل واضح مرامي بعض النظريات التربوية التي تقيس، وتناقش ماهية الذكاء، وتعدديته ومراحل تطوره.
فتحليلنا هذا، ينبه إلى المركز الجوهري، والدور الفعال الذي تحتله السياسة التربوية في أي نظام تربوي. فالسياسة التربوية الناجعة، هي التي تغطي مطالب الشعب، ومطالب السوق عبر عرض تعليمي عالي الجودة، قائم على تكافئ الفرص بين أبناء الوطن، مراع العدالة الاجتماعية، ومحتضن مبدأ تعدد الذكاءات.
ندعو صناع القرارات، ومنظري سياستنا التربوية، إلى عدم التقوقع على المواد العلمية على حساب المواد الأخرى، كما كنا نسمع في السابق، مع السعي الجاد، والوعي التام لتوسيع الآفاق من حيث المداخل التربوية، ومن حيث مخرجاتها.
تعود رواد المستجدات التربوية، تعزيز مواقفهم أو تبرير أطروحاتهم بالاستناد دوما على نظريات، ونتائج علمية محكمة. وعليه، بني هذا المنظور التربوي الأكثر شمولية في وضع السياسة التربوية الناجحة. فنظرية تعدد الذكاءات هذه، التي دعا إليها غاردنر، نظرية تبرر وجود أنواع متعددة من الذكاءات لدى البشر، وخاصة لدى الأطفال الناشئين، بدلاً من اعتبار الذكاء نوعا واحدا. لذا يرجح بعض الباحثين في علوم التربية نتائج نظرية غاردنر، التي تم تقديمها أول مرة في كتابه المعنون ب أطر العقل، عام 1981، وصل إلى أن هناك عدة أنواع للذكاء، نعد منها: الذكاء اللغوي، والذكاء المنطقي، والذكاء الرياضي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء الجسمي، والذكاء الفني، والذكاء الموسيقي، والذكاء الخاص بالطبيعة، والذكاء الذاتي، وغيرها. إلا أن السياسات التربوية والتعليمية كانت منحصرة في النوعين فقط من الذكاءات، هما: الذكاء الرياضي (نسبة إلى الرياضيات) والأدبي. غير أن هذا الزعم انقلب نسبيا بعد ظهور بحوث علمية جادة تدعو إلى الاهتمام بتعددية الذكاءات وتلح على السياسات التربوية التي تفتح الفرص لكافة الاستعدادات.
ولقد تم مع الأسف الشديد، تصنيف المتعلمين، ردحا من الزمن، إلى ” علميين” أو “أدبيين” دون أدنى اهتمام للجوانب الأخرى من الذكاءات! وفي وقتنا الراهن، يجدر إعادة النظر إزاء هذا النوع من التصنيف وعدم النظر بالعين الواحدة، ولا الاعتماد على تصيف مفاده توسيع الفجوة بين العلوم أوتسويقها لأصحاب الأغراض الزائلة.
ولله در الأستاذ محمد أبي زهرة، حيث أورد مقولة الإمام الشاطبي رحمهما الله، حين يقول: “إن مواهب الناس مختلفة، وقدرهم في الأمور متباينة، ومتفاوتة… والواجب أن يربى كل امرئ على ما تهيأ له، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه”. وإن كان هذا العالم الأصولي يوضح الواجب في إطاره الكفائي، إلا أن فهمه الدقيق للواجب الكفائي ينطبق أيضا على ماهية هذه الدعوة الإصلاحية التي تنادي بمراعاة تعددية الذكاءات لوضع سياسة تربوية تعزز القدرات، وتلبي حاجيات المجتمعات.
فالحاجة ماسة إذن إلى سياسة تربوية تحافظ على هذه التعددية، بحيث تحتضن الذكاءات، وتقوم على مبدأ التكامل بين العلوم والمعارف، دون أي تهميش في بناء مدرستنا الجديدة.
لا تنس أخي الكريم، أن محور النقاش في الأمس القريب كان يدور حول الحواجز اللغوية، والموضوع اليوم تطور إلى منحى الحواجز المصطنعة بين المواد.
وأخيرا، ينبغي إعطاء المعارف، والعلوم بتنوعها، حقوقها ومستحقاتها في سياستنا التربوية.
قد لا نرى مجتمعا سجل تقدما معتبرا في نظامه التربوي، مع الحفاظ على هذا النوع المبني على المحسوبية العلمية بدل التكامل بينها.
والحاجة تدعو إلى إيجاد سياسة تربوية مفتوحة، تستقطب القدرات والكفاءات بغية إيجاد مخرجات متكاملة، من حيث الجودة والنفع للمجتمع.
فلنتجنب أخي الكريم، جر أطفالنا إلى الصراعات الغير المجدية، معارك عديمة الفائدة والجدوى، حين لا نحترم استعداداتهم النبيلة حين نوجههم أو نشرف عليهم، وما لنا كمأطرين إلا تعزيز ذواتهم ورفع هممهم لبناء مدرسة تستقطب الذكاءات والقدرات لكافة أبناءها.

  • أستاذ باحث في كلية العلوم وتكنولوجية التربية والتكوين بجامعة شيخ انت جوب، السنغال.
    -عضو سابق في مجلس البرنامج بكلية علوم التربية، قسم الطفولة بجامعة مونتريال، كندا.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى