Articles

مقال: في حديث إلى قناة الجزيرة، “ماكرون” ينسى المسلمين في إفريقيا جنوب الصحراء

بقلم باكر سامب

بين السجالات الشعبوية والتركيز على المنطقة المغاربية، يبدو أن فرنسا نسيت أن هناك دولا علمانية في غرب إفريقيا كان بالإمكان أن تتعلم الكثير من نموذجها

في الأسابيع الماضية كان على الأصوليين المنظَّرين لحتمية “صدام” الحضارات أن يبتهجوا، مع الأسف، وهم يتصفحون الأحداث الساخنة والإثارة الإعلامية. فالهجمات الإرهابية الفظيعة وما خلفته من الدمار أثارت صدمة عاطفية في فرنسا وعند الأغلبية الساحقة من مسلمي العالم، الذين يتعرض دينهم للتلاعب من قبل متطرفين همجيين لأهداف شريرة.

لقد فهم ماكرون الحاجة إلى البيداغوجية

إن الرئيس الفرنسي الذي تعرضت إدارتُه لهذه الأزمة غير المسبوقة لكثير من الانتقادات أدرك أخيرا احتياجه إلى البيداغوجية لمرافقة الرد الحازم الموجه ضد هذا العنف الذي لا يمكن تحمله.
كانت المقابلة التي أجراه الرئيس ماكرون مع قناة الجزيرة دليلا على الرغبة في التهدئة التهدئة التي كانت فرنسا وأصدقاؤه في العالم الإسلامي بحاجة إليها لكيلا يستسلموا لمزايدات المتطرفين السياسيين ورجال الدين من جميع الجهات.

رفض الساحل
لا بد من التسليم بأنه يجب على المجتمعات الأوروبية والجماعات المسلمة فيها أن يعالجوا سوء تعايشها. صحيح أن الخطاب حول “الانفصالية” كان قد بدأت تنمِّي شعور الرفض لمبدإ العلمانية في الدول ذات الأغلبية المسلمة في العالم وخاصة في منطقة الساحل.

إن دول المنطقة التي يُنظر إليها، منذ زمن بعيد، على أنها امتداد ووريثة للنظام الاستعماري ” المعادية للإسلام” ستواجه صعوبات في مواصلة الإصلاحات التي بدأتها في مجال التعليم الديني وكذلك تنظيم شؤون العبادة.

وكما واجه رؤساء دول المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل(G5) صعوبات في إقناع الشعوب المحلية حول جدوى التعاون العسكري مع فرنسا لمحاربة الإرهاب، فإنهم سيجدون من الآن فصاعدا صعوبة في الاستمرار في الدفاع عن مبدإ العلمانية دون أن يُشبَّهوا بـ”مقلدين باهتين”.

غالبية دول المنطقة أقرت دستورية العلمانية

فالعلمانية مبدأ نبيل وناجع، نظراً لأنها تفترض عدم التمييز بين المؤمنين وغيرهم، وكذلك احترام حرية العقيدة. وأغلب دول المنطقة أقرَّت دستورية العلمانية، وفي أحيان كثيرة، في البند الأول من دستورها، وذلك شأن النيجر والسنغال ومالي . وهذه العلمانية” المكيَّفة” لدول غرب أفزيفيا، ظلت مكسبا مهما وحاسما على الرغم مما تعرضت له من محاربة.

وحتى في ذروة الأزمة في مالي، كان الإمام ديكو، الذي قاد الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، يُقدم وعودا بعدم المساس بمبدأ العلمانية، لأنه ضمان للاستقرار والتماسك الاجتماعي.

وصم الإسلام والمسلمين

بالإضافة إلي دعوة ماكرون إلي التهدئة، يظلُّ هناك حاجة إلى اتخاذ خطوات للتخفيف من الشعور العام الذي يتغلغل في الساحل منذ مدة بأن نخبة من السياسيين والمثقفين الفرنسيين المشهورين إعلاميا تسعى لوصم الإسلام والمسلمين ابتداء من النقاش حول الحجاب الإسلامي والهوية الوطنية منذ عهد ساركوزي إلي ” انفصالية ” إيمانويل ماكرون مرورا بـ”بركيني” الاشتراكيين.
هناك تصورات ذهنية راسخة يغذيها الواقع.

إن الطبقة السياسية الفرنسية لا يقدر جيدا مدى تأثير نقاشاتها على صورة بلادها في الخارج.

فهذه الأجواء لا يمكن للرأي العام الإفريقي وحتى الأوروبي المجاور أن يفك شفرتها، وهي أجواء مشحونة بنقاش يُغذي الشعبوية بشكل مدهش في دولة الثورة والأنوار وحقوق الإنسان. لا تقدر الطبقة السياسية الفرنسية مدى تأثير بعض النقاشات والتصرفات غير المجدية في صورة بلادها في الخارج.

وتأتي هذه الأحداث في سياق تشهد فيه منطقة الساحل نزعة إسلامية-قومية صاعدة. وهذا التيار الذي ازدهر على أنقاض حلم ” الليلة الكبرى” المناهضة لليبرالية والاستعمار الجديد يجتاز سائر الأوساط، من مثقفي اليسار القديم إلي السلفيين الذين نجحوا بالفعل في إيجاد اندماج لم يكونوا يحلمون به، بفضل أسلمة الاحتجاجات.
وهذا السياق الذي كان يقتضي مراجعة الخيارات الديبلوماسية سيزيد من ضعف المدافعين عن العلمانية أمام سياسيين مستعدين لجميع التنازلات من أجل الانتخابات.

المبدأ العلماني مهدد من قبل المتطرفين الأصوليين وبسبب التسييس المفرط.

في الواقع، يهدد المبدأ العلمانيَّ التطرفُ الأصولي والتسييس المفرط لممارساته. في الساحل كما في فرنسا، يجري النقاش مع كثير من التناقضات. وفرنسا الجمهورية الثالثة، في عهد الاستعمار، كانت تعتبر أن المعاداة الكنيسة أمر “لا ينبغي تصديره” إلى ما وراء البحار.

بينما كانت الجمهورية و”فرسانها السود” تبتعد عن الكنيسة في فرنسا، كانت في الوقت نفسه تتعاون مع الكاردينال لافيجري في الجزائر والمنصِّرين في غرب إفريقيا، وكانت توليهم تقريبا شؤون التربية الوطنية العلمانية، كما تعاونت مع شيوخ الطرق الصوفية

اليوم حين يطالب الإسلاميون في الساحل بمزيد من تطبيق الشريعة في قوانين الاحوال الشخصية فانهم يستحضرون “المحاكم الإسلامية “أو “التقليدية” في إفريقيا الغربية الفرنسية. كان هذا الغموض حول العلمانية يجعل المهمة شاقة بالنسبة لمن يدافعون عنها باسم عالميتها رغم تنوع تطبيقاتها.

وربما يمكن لفرنسا أن تتعلم من تجارب العلمانية الأفريقية.

كانت بإمكان فرنسا أن تتعلم من تجارب العلمانيات في إفريقيا الناطقة بالفرنسية وهي علمانيات انبثقت في ظروف مستقرة وهادئة دون معارك، بدلا من إضعافها من خلال الصورة التي تعكسها. فتاريخها وتركيبها الديموغرافي وكذلك روابطها الثقافية مع العالم الإسلامي وخاصة إفريقيا يعطيها فرصة لذلك.

ولكن كان من الأفضل مسبقا اعتبار المساهمات الأخرى للإسلام في فرنسا. فقد ظل الإسلام جنوب الصحراء مهمشا في الدراسات الإسلامية الفرنسية. وهذا التهميش النموذجي وجَّه المعالجة الهامشية للإسلام الإفريقي نحو عهد بعيد عن الرهانات الجيواستراتيجية الساحلية الحالية.

هل يعتقد ماكرون بأنه، من خلال الجزيرة، القناة المفضلة لدى حوالي 20+% من المسلمين – وهم مسلمو العالم العربي- يخاطب بشكل فعال مسلمي القارة الذين ما زالوا محتجين؟ وهل هذا رؤية أخرى للإسلام متمركزة حول العرب موروثة من خيال قديم؟

تهميش الإسلام في جنوب الصحراء

يبدو أن فرنسا التي كانت توصف بـ”قوة إسلامية” في تقارير وليام بونتي في العشرينيات من القرن الماضي “بفضل” سيادتها على الجزائر والنيجر والسنغال والسودان[مالي حاليا]” تواجه حتى الآن صعوبة في ترجمة هذا التنوع إلى فرصة في تدبير أمور ديانة لم تعد أجنبية فيها.

فمن جهة، لم يترك التركيز على المنطقة المغاربية، وعلى التجربية الجزائرية والبدائل المغربية حيزا كبيرا لكي يؤخذ في الاعتبار الإسلام الجنوبي الصحراء الفرنسي الذي يعاني مرتين من عقوبة التهميش.

هناك مثقفون يريدون أن تستفيد الجمهورية من خصوصية اتفاقية البابوية للألزاس.

ومن جهة أخرى وجهت السلطات الفرنسية اهتمامها إلى المنطقة المغاربية المجاورة وإلى قضية تدخلات البلدان الأصلية في الحياة الدينية في فرنسا. ومع ذلك، فإن “الإسلام القنصلي” الذي يتم التنديد به اليوم كان منددا بالفعل من قبل مثقفين مسلمين وباحثين آخرين أرادوا أن تستفيد الجمهورية من خصوصية الاتفاقية البابوية للألزاس، فجعلوا من الممكن وجود كلية لأصول الدين في ستراسبورج.

وكذلك، منذ المحاولات الجزئية لتنظيم الديانة الإسلامية في عهد بيير جوكس إلى إنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من قبل نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية في ذلك الوقت، كان الفاعلون الجنوب الصحراويون يلعبون في أحسن الأحوال أدوارا ثانوية إن لم يتم إقصاؤهم من الهيئات القيادية للإسلام في فرنسا.

وضعية البلد- الوسيط
على الرغم من الصدمة، يجب على فرنسا أن تتحمل وضعيتها كبلد-وسيط. وعلى طبقتها السياسية واجب المقاومة ضد صفارات الإنذار الشعبوية والتطرف من جميع الجهات. .كما كان محمد شريف فرجاني يخشى، فإن هؤلاء قد يكونون الفائزين غير المحظوظين لعهد ما بعد الكوفيد-١٩مع دول ضعيفة، فريسة للأزمات المتعددة.

من منظور منطقة الساحل، ومن وجهة نظر المدافعين عن العلمانية وحقوق الإنسان، إن فرنسا نفسها هي الخائنة لروح الجمهورية إذا سلكت نهج النبوءات الثقافية والنمطية. وقد لا يكون ذلك ضد قيمها “العالمية” فحسب، بل يكون أيضا ضد مصلحتها وصورتها في منطقة يبدو أنها بحاجة إلي جهود هامة وعاجلة.

إن الإدارة الظرفية للقضايا الأساسية في التعايش، وكذلك البراغماتية السياسية الرائجة يمكن بسهولة أن توجه الأنظار، على المدى القريب، لفرنسا التي تبتعد عن مبادئها الأساسية التي ألهمت دساتير ونظما سياسية، وأذهلت العالم منذ وقت طويل.

مصير مختوم بهشاشة مشتركة
لا يحق لفرنسا أن تستسلم للإغراءات الشعبوية، نظرا لتاريخها وإرثها. وبفضل التزاماتها وروابطها في منطقة الساحل تجدر على فرنسا أن تفهم بأننا أصبحنا مجتمعا دوليا واحدا ذا مصير مختوم بهشاشة مشتركة. وهنا تكمن ضرورة المشاركة في بناء حلول تُمَكن من مواجهة التطرف المدمر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى