مقال: دنيا الجنون ! “لا حول ولا قوة إلا بالله”..
كتب: أبو رحمة الشيخ تجان سيك
في عصر الظلام الذي تلاطمت فيها أمواج المتناقضات، وتصارعت المصالح الشخصية على حساب المصالح العامة، في هذا العالم المعاصر الذي يقود زمامَه شرذمةٌ انتهازيةٌ ولوبياتٌ شرسةٌ، تضغط على العقول وتحرمها حرية التفكير النزيه، وتمنع حرية التمتع تحت دوحة الحياة يظلالها الوارفة ، والإنسان الذي لا حرية له لا وجود له.
عصر ظهرت انهيارات فكرية حادّة، شكلت عولمة الفجور حين يتجرّأ البعض على انتهاك كلّ المقدّسات الدينية، ويدوسها بأقدامه الظالمة الإلحادية، باسم الحريّة، وباسم العصرنة، وباسم “نظام العالم الجديد” حريّة تتيح انتشالَ القيود وتجاوز الحدود بكل وقاحة، حرية تمنح إقصاء الرؤى الدينية ورميها بأبشع ألقاب وأوصاف، بالتخلُّف..بالرجعية، ..وضدّ الإنسانية، وكبت الحريّات… حتى وصلت الوقاحة بهم إلى الاستهزاء والسخرية بالدين وتعاليمه، والمساس بكرامة رسول الإنسانية صلوات الله وسلامه عليه، جرأة بلغ أوّجها في تعرية الإنسان وتجريده من كل الميزات وتسويته بالحيوان الوحشي، جرأة في الكفر البواح وتقديم الدوخة العقلية المجرّدة العليلة على الرؤى النبوية الرشيدة:
من لم يعد محمدا في علمه
فالعلم فيه خسارة وملام
يا أحمد الثقلين في إرشاده
يا من لكل المهتدين إمام
ومن السماء بنوا عزيز حياتهم
ومن السناء بنيت يا قمقام
ما منتهى السقراط والملإ الألى
تبعوه إلا قربة فحمام
وكذلك أفلاطون في آرائه
ما النقض حرره ولا الإبرام
مؤامرات ضد الانسانية لا تنتهي، تهدف الى قمع نفسها وكبح حرياتها، تفرض على الانسان أن ينخلع عن دينه، وقيمه، ويفكِّر بعقل غيره، يستورد الثقافات والعادات والرؤى المصادمة للدِّين والإعتزاز بها، “ومن يتولّهم منكم فإنه منهم”
في عالمنا المعاصر، انحرفت الحياة عن مسارها، وتدخّلت فيها يد الإنسان الطاغية لتشويه جمالها وتنغيص صفوها، “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس”، فبدلا من تعمير الأرض وإحيائها، وإنعاش الإنسانية إلى أبهى الحياة وأرقاها، تسعى الأيادي الآثمة إلى الفساد والتنوُّع في إتلاف النفوس، والتفنُّن في حياكة المكائد والحيَل لزعزعة أوتاد العالم، وبثّ الرعب بين السكان، “بل مكر الليل والنهار”، لا يرقد الليل ولا يهدأ النهار لأجل تخطيط ما يدمّر كيان الانسان تارة باسم التقدم والتطور، وتارة أخرى باسم الحفاظ على الانسانية وكرامتها ورُقيِّها.
في عالمنا المتناقض، أصبح العلم أَلمًا، والتعلُّم تألُّمًا كما يقول الفيلسوف أنيس منصور. وأصبح العلم شقاء لصاحبه يحرمه من استنشاق نسيم الحياة. أما الجهل فكأنه داء ناجعٌ وعنصر فعّال للتمتّع بالحياة، يُنقذ صاحبه من نكد العيش وضنكه، فكأنه سُلم يرتقي به الانسان إلى المناصب العليا. بينما العلم مصدر كل النكبات والنكسات، يجلب الشقاء لصاحبه ويُقصيه عن أجواء السعادة الحقيقية.
في عالمنا اليوم ساد الغلوّ وفي الغلوّ سفاهة يُنفِّر الناس عن بيضة الإسلام وجوهره، وفي مقابله التساهل والتخاذل والتلاعب بثوابت الدين واعتبارها مجرد أفيون الشعب وخرافات يعتنق بها الانسان للمخاوف تجاه الطبيعة وللهروب من ظروف الحياة. فالقوي أمام الضعيف يشبه حيوانا مفترسا يستغل قوّته ويستفرغ مجهوده للقضاء على فريسته، فالدول الكبرى تتنافس في سيطرتها على المستضعفين تنافسا غير نزيه، وتدوس بأقدامها الجائرة على الإنسانية وحريتها، وتنهب خيراتها، ولا يردع عنها رادع إنساني ولا وازع ديني.
في الوضع الراهن أمامنا ركام من الخيوط الفكرية الشاذة ، والأوهام الخطيرة التي أدت إلى نشر الرذيلة وإقصاء الشباب عن جوهر الإسلام والاقتصار على الشكليات فقط، والهيام بكل ما يمتُّ إلى الحضارة الغربية المزيّفة بصلة واعتقادها جنّة الله في الأرض.
ولَم تكن تلك الحضارة المشبوهة التي تشرئبُّ إليها الأعناق قادرة على إسعاد البشرية، ومقاومة مشاكل الحياة بما فيها الجائحة التي أطبقت الآفاق، فتاهت الأحلام، وتعالت موجات الصرخة اليائسة، فسقطت الأقنعة، ليُرى ما وراء نسيجها الرقيق من اللعبة السياسية المبكية والمضحكة في آن واحد، والتي تجيد حياكتَها أيدي العائثين في الأرض فسادا.
انهارت الدول الكبرى بغطرستها فكأن ضخامتها ما هي إلا زيف وتمويه، ينخدع به السُّذج، فمعنوياتها منحطّة، وقوّتها تنبئ بالانهيار أمام جرثومة ضئيلة لا تُرى بالعين المجرّدة، تفعل الأفاعيل وتُصمي النفوس دون تفريق بين أغنيائها وفقرائها، بين نُخَبها وسفلتها، صغيرها وكبيرها، عالِمها وجاهلها. واعترف الأطباء المهرة بالعجز التّام للحدِّ عن هذه الظاهرة الخطيرة، مع ما يملكون من إمكانيات ماديّة ومعنوية تفوق الوصف، وصلاحيات فضفاضة تخرق رمال المعقول.
ونحن- المسلمون -بصفة عامة والقارة السمراء بصفة خاصة إزاء هذه الكارثة لا ينبغي أن نكون ضحايا بلا جريمة، وندفع الثمن غاليا، لذلك يجب أن لا ننعزل في زاوية، ونترك المتآمرين الانتهازيين يستهدفون هذه القارة ينهبون خيراتها، ويعتبرونها غرضًا لإنعاش اقتصادهم المحتضِّر، وترميم ما أتلفته أيديهم الجائرة إبّان هذه المحنة أو المنحة عندهم.
ونحن -المسلمون – يتحتم علينا إعادة النظر في عقيدتنا ومحاسبة أنفسنا بكل جدية وإخلاص بدون أي مواربة ولاهوادة، وأن لا نترك عاصفة هذه الجائحة تستهدف شجرة عقيدتنا الراسخة لاستئصالها أوتلويثها، شخصية المسلم ترفض أن تكون عالة على غيره، ولا إمّعة يجرّ وراء كل ظاهرة يستسلم لها ولو على حساب عقيدته ومبادئه. فالصُّمود والتيقُُظ مطلبٌ شرعي ومقصدٌ إنساني وخصوصا عند النوازل والكوارث.
أمام هذه الجائحة، اختلط الحابل بالنابل، زلزلت الأقدام زلزالا شديدا، وبلغت القلوب الحناجر، قد احتلَّها الرُّعب وذهب بها كل المذاهب، فكأنها قارعة تقرع الأسماع، فوصلت الحال إلى إغلاق الشركات والمؤسسات، والمساجد، ولَم يسلم بيت الله الحرام أقدس مكان في العالم، وتطايرت الفتاوى تطاير الهشيم على النار بعضها معقولة مستندة على المنقول والمعقول، وبعضها شاردة بعيدة عن نصّ محكم وعقل رشيد.
والأدهى في الأمر أن بعض المسلمين بصفة عامّة والأفارقة بصفة خاصّة آثروا العزلة على الواقعيّة والموضوعية، وكان عليهم إيجاد البدائل للتعامل مع الجائحة، وأن لا يكون موقفهم موقف المتفرج دون فرض سياستهم ووجهة نظرهم تجاه هذه الإشكالية بدلا من الاعتماد الكلي على المقترحات الأجنبية العاملة في تخطيط مستقبلهم وفرض ما يسمى “النظام العالمي الجديد” الذي يتضرّر به المسلمون والأفارقة بالدرجة الأولى، ويُقصيهم عن ممارسة دينهم بكل حريّة وارتياح.
ولَم يكن طرح علامات الإستفهام والتنقيب بهدف إدراك مصدر الوباء وعواقبه، والتنبؤ لمستقبل العالم بعد الوباء؟ يخطر على بال العالم الإسلامي، فكأن القاعدة: التصديق لما يُروى وتناقلته الهيئات الإعلامية التي تخدم مصالح الإستعمار وأعداء الإسلام، وترقُّب حلولهم ترقُّب الأرض القعساء للغيث. فكأن الإسلام لم يعد حلاًّ لمشاكلنا ولا نبراسا ينير لنا طريق السعادة الحقيقية. فالمستقبل الزاهر للمسلمين وللقارة السمراء، شريطة أن يكون الدين منهجا ونظاما شاملا للحياة دون الإقتصار على الجزئيات والشكليات. “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون”
فإن دين رسول الله فيه لنا
حل المشاكل دنياها وأخراها
دون الخنوع والرضوخ والاستسلام التام لمدعي العصرانية والتطور، يُدبِّرون حالنا، ويُبرمجون حياتنا وفق إرادتهم لا إرادتنا وقيمنا وعاداتنا، يسحبون أذيالنا أحيانا مسحب الذُّل والهضم، بهدف تدمير عقيدتنا وهُويَّتنا وضميرنا، فعلينا أن نكون واقعيين، ندبِّر شؤوننا بأنفسنا دون أن نترك أيدي الغواية الخادعة تسوسنا وتتدخَّل في شؤوننا الخاصة، تُقوِّض أوتاد حياتنا الدينية والاجتماعية والسياسية من أصلها، فهذا الوباء العالمي كما ذكر البعض فضَح أوجُهًا كنّا نحسبها قمّة في الجمال وراء أقنعتها الخلاّبة، فإذاهي شوهاء مستهجنة لا تسرّ الناظرين، فالدول الملقبّة بالدول النامية والتي تشمخ أنفها تكبرا وتبخترا، ونصبت نفسها مكانة الصدارة والريادة تصرخ بأعلى صوتها طلبا للنجدة والإسعاف، وتستفرغ كل ما في وسعها للقضاء على هذا الوباء بدون أي جدوى.
أما المسلم القوي أمام هذا الداء العضال، لا يسعه إلا أن يلجأ إلى الواحد القهار، ويبوح بقلب صادق” لا حول ولا قوة إلا بالله” ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ” يلهج بكل قلب سليم “هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايمانا وتسليما”
أما التخاذل والوهن وضعف العقيدة والشعور بالدونية، ينعكس سلبا على الحياة، وينقض عُرى الإسلام عروة ، عروة، وبالتالي تكون الحياة أمام المسلم الحائر قاتمة، وضاقت به الأرض بما رحبت.
نتيجة أن المسلم حاد عن منهج القرآن الشامل، فقد سلّم زمام أمره إلى من لا يرفع رأسا لعقيدته، وأعار أذنا واعية إلى من يسعى في تدميره، يشحن فيها ما يناسب “هوى النظام الجديد” لا ما يوافق المنهج الرباني، يُصرِّف في كل المجالات الحياتية كيف يشاء، تارة بالشائعات التي تُضعِف معنوياته، وتفقد حيوية عقيدته، يقترح عليه ما يمسُّ كرامته وينقش في ذاكرته خرافات وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
فالمسلم مأمور بالصبر عند صدمة الأولى ولا يتنافى ذلك الأخذ بالأسباب للخروج من المأزق تطبيقا مبدأ ” تدافع الأقدار” ” الفرار من القدر إلى القدر” فالله سبحانه وتعالى يرسم لنا المنهج القويم لإسعاد البشرية كلها “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها”
العبرة ليست بالعدد أوالعُدد، لكن بالتقيد بالمنهج الربّاني الذي جعل الرعيل الأول فوق القمة، لا يُشقّ لهم غبار في الأوَّلية والأسبقية في كل المجالات الدينية والدنيوية.
“فالمسلم القويُّ أحبُّ الى الله تعالى من المؤمن الضعيف” قويٌّ حسيًّا ومعنويا، الكفاءة العالية في الجمع بين التنظير والتطبيق، قوة التفكير الرشيد الهادف إلى التغيير الإيجابي، قوّة إحكام لبِنة الحياة ووضع كل شيء في مكانه المناسب، قوة الصمود والمكافحة ورفض الاستسلام والإذعان للنزعات العصرية والتدخلات الأجنبية، قوّة اليقظة للإدارة الناجحة، والقدرة على إدارة الأزمات والخروج منها بنتيجة ساحقة ترفرف راية الإسلام في سماء المجد والسعادة.