مقال: أي مركز للقارة الإفريقية في قلب الدورة الحضارية القادمة..؟
د. محمد سعيد باه
توطئة: باستقراء مؤشرات حركة العالم المترنح الخطى وباستشراف تخوم المستقبل الذي أخذ يتشكل ونحن موقنون بأننا سائرون إليه، نجزم بأننا مقبلون على دورة حضارية يتوقع أن تغاير الحضارة التي عشنا في ظلها منذ انحصار ظل الحضارة الإسلامية منذ سقوط آخر رمز لها عند نقطة تعانق آسيا وأوروبا، ثم تتباين الاتجاهات في تحديد ماهية هذه الحضارة القادمة:
أتحمل جينات جديدة مصدرها المشترك الإنساني (الجوامع المشتركة) وتتحول من حالة احتراب واستقطاب مؤلم إلى التساند والتراحم ضمن دائرة المصير الإنساني الجماعي؟
أينجح المسلمون في استعادة زمام القيادة البشرية التي أفلتت من أيديهم منذ حوالي قرنين اتسما بالجفاف الشديد ويساهموا في بناء المستقبل المنشود بما يتناسب مع حجمهم ومقامهم وبلائهم؟
أتكون الدورة الحضارية المقبلة استمرارية أو استنساخا لحضارة الـ: “كلو واط” الحالية؟
ما الوزن الحقيقي الذي ستمثله القارة الإفريقية في المعترك القادم؟
أترى سيختلف موقعها وأداؤها ومصيرها على ما كان عليه حين عبرت القرن الفائت منكسة الراية عرضة للنهب؟
بعد إدامة النظر فيما يموج به العالم من حولنا يجعلنا نجزم بأن منطق سنة تداول الأيام، كما حددها كتاب الله، وعلل أخرى فتاكة في جسوم الحضارات كل ذلك يأبى أن تتكرر هذه التجربة المؤلمة التي اصطلى بنارها الجميع!
ثم يأتي استنفاد هذه الحضارة مخزون العطاء، الذي يمثل ركيزة الاستمرارية لكل الحضارات، ليعضد ذلك.
يتمثل العامل الثالث في مستوى الفساد الحضاري غير المسبوق في الإنسان وفيما حوله والذي يرفض هذا الخيار كما نستشف ذلك من قراءة واعية لسور مثل الفجر وهود والأعراف والشمس..
قبل تناول المقومات والخصائص التي تشكل عنوان هذه الجزئية من الندوة نشير إلى العلاقة الوثقى بين الهوية وبين التنمية في مفهومها الأصيل:
١) تتشكل الهوية من الذات الجماعية الناصعة التي لم تدفعها الإكراهات إلى الخضوع لعملية التدجين (لا يتنافى ذلك مع التخصيب والاقتباس المختار والتكييف الذكي كما تقتضي الجيرة الحسنى)
٢) التنمية مطلب يتحقق باعتباره من ثمرات الهوية السوية ثم تتحول إلى حضن مكين لصون الهوية حتى لا تبتذل أو تنتهك كما تعكس تجربة إفريقيا المرة في احتكاكها مع الغرب وهي مدججة بكل وسائل الفتك وأيدينا خالية من أية وسيلة لصون الهوية!
لتتضح هذه الحقيقة فلننظر في الإشكاليات المعقدات التي تطرحها اللغة في القارة الإفريقية وكيف وظفت لمسخ الهوية ولسلخ التاريخ وصولا إلى سد كل سبيل موصل إلى سدة التمكين (تسفيها للغاتنا مع دفن مخزون تراثها وفرضا للغات المحتل لتكون معوقات تجعل النهضة مستحيلة).
إشكالية العبور:
لتعبر القارة المستنقعات التي تحول بينها وبين الدورة الحضارية القادمة علينا تفعيل (استثمار) جملة عوامل:
أولا- المقومات:
نقصد هنا جملة من العوامل الذاتية لا تزال معطلة وقد تم تبذيرها في حالات كثيرة، منها:
١) حجم وتماسك الأرض (ثاني قارة من حيث الحجم: ٣٠،٢ مليون كلم مربع) تحت الأقدام ما يجعل هذه القارة وحدة جغرافية متصلة الأطراف وهو أمر له قيمته الأساسية في حركة الإنسان وتبادل المنافع كما يؤكد إعلان السوق الإفريقية المشتركة التي تم التوافق عليه عام ٢٠٢٠م ما جعلها أضخم سوق مشتركة في العالم (٥٤ دولة موقعة)، سيصل حجم التبادل في المرحلة الأولى إلى أكثر من (٣) تريليون من الدولار الأمريكي ثم يبقى تحدى التفعيل الذي تتكاثر المؤشرات على فرص نجاحه؛
٢) الموقع الجغرافي المتميز الذي تحسد عليه القارة بحيث تواجه كلا من الأمريكيتين الجنوبية والشمالية وآسيا وأوروبا؛
٣) القيمة – الثقل: (ثاني قارة من حيث عدد السكان: ١،٢٥٠ مليار نسمة) البشرية التي تشكل اليوم محور الصراع المتنامي (السياسة السكانية)، وحسب تقرير للأمم المتحدة الخاص بسكان العالم سيتضاعف سكان القارة الإفريقية في العام ٢٠٥٠م وتصل نسبة الزيادة إلى ٩٩٪
٤) الأرصدة الهائلة، والتي نختار منها هذه النماذج:
آخر الاكتشافات للمواد الحرجة، في جمهورية مالي الجريحة وحدها تم اكتشاف كميات من المواد النفيسة تبلغ (٤٨) مليون طن فضلا عما يتداوله الخبراء بأنه يوجد تحت نهر النيجر وحده كميات من مياه الشرب تفي لاحتياجات العالم لمدة قرن كامل ويضاف إلى ذلك نهر النفط والغاز المتفجر من الحدود السنغالية – الموريتانية والممتد إلى حوض نهر تشاد.
ثانيا- الفرص:
حين نفحص اليوم الحركة الدائرة في عموم القارة وما يتوقع أن ينجم عن هذه الحركة من ارتدادات حميدة يمكن أن تتحول إلى حالة من العدوى تشمل كل أرجاء القارة يمكن أن نرصد:
١) القيادة السياسية الجديدة التي بدأت تحرك المياه الراكدة في العديد من الدول التي كانت، حتى العقد الماضي، تصنف في خانة الحالات الميؤوس منها وكانت هذه الحالات تضم كلا من روندا، نيجريا، موزنبيق، جزر الرأس الأخضر، تنزانيا، مدغشقر…، ثم تحولت في وقت قياسي إلى نماذج تحتذى.
٢) الجيل المتعلم الذي يتمتع بخاصيتين: عمق الولاء والوطنية الواعية والذى يتوقع أن يتسلم مقاليد الأمور في القارة والذي يتوق إلى إحداث تلك النقلة النوعية التي طال انتظارها وحال دون تحققها نوع سيء من القيادات السياسية ابتليت بها القارة منذ الرحيل الصوري للمحتل فنصبت بيادق لحفظ المزرعة.
٣) انكسار هيبة الغرب في أعين جمهور الشعوب الإفريقية، وعلى رأسهم الطليعة الفكرية حتى تلك المغربة التي رضعت من لبان المنظومة الحضارية الغربية، وقد تكرس هذا الإحساس بالسقطة الأخلاقية التي أصابت القوى الغربية بمقتل وذلك من خلال فشلها المريع في إدارة جائحة «كوفيد-١٩» لدرجة أن معظمها وأكثرها كذلك صخبا في الأسواق مارست القرصنة بأحط صورها حين استولت الولايات المتحدة الأمريكية على شحنة من الكمامات كانت متجهة إلى فرنسا والتي ارتكبت الجرم نفسه بحق جارتها وشريكتها إيطاليا، وهلم جرا!
٤) النجاحات التي حققها معظم الدول الإفريقية في مواجهة تحدى إدارة الجائحة بعيدا عن الإملاءات مع تكذيب كل التوقعات التي تكهنت بأن الفيروس سيحصد ملايين الأرواح (فعلوها من قبل حين ظهر وباء فقد المناعة المكتسبة) في إفريقيا وهي جريمة تولت كبرها منظمة الصحة العالمية هذه المرة ثم جاءت كل المعطيات لتكذب ذلك أولا ولتفضحهم ثانيا.
٥) أما أكبر فرصة في أيدى الأفارقة اليوم فتتمثل في كسر القمقم الذى طالما حبس فيه المحتل الأجنبي هذه القارة العملاقة التي لديها كل مقومات الحياة الكريمة السعيدة ما ولد ظاهرة الشراكة المتعددة بعد أن كان المسار ذا اتجاه واحد، وأقوى تعبير يجسد هذه الحالة المستجدة عنوان مقال كتبه مؤخرا وزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو ونشره بتاريخ ٢٥ مايو المنصرم بمناسبة اليوم العالمي لإفريقيا حين قال: ” إن الاتحاد مع إفريقيا أصبح اليوم ضروريا أكثر من أي وقت مضى “
- استشاري في العمل الإنساني الإسلامي،يعنى بقضايا الوجود الإسلامي بغرب إفريقيا، يكتب في الفكر والأدب والسياسة والتاريخ…