لغتنا العربية رمز هويتنا وعنوان حضارتنا
محمد علواني
“ما ذلت لغة شعب الا ذل، وما انحطت الا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا علي الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد:
أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا
وأما الثاني فالحكم علي ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا
وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها فأمرهم من بعدها لأمره تبع…….
ان اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، فمن حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها تجدها الصفة الثابتة التي لا تزول الا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها”
مصطفي صادق الرافعي بهذه الكلمات الموجزة البليغة يؤكد للأمة علي أهمية حفاظها علي لغتها وعلي الخطر الذي يتهددها ان هي أهملت شأنها أو قدمت عليها لغة أخري، فاللغة هي وعاء فكر الأمة ، وهي وسيلة التواصل بين أبنائها، وهي حلقة الوصل بين أجيالها المتعاقبة، وهي ماضيها وحاضرها ومستقبلها، اللغة هي تاريخ الأمة، والأمة التي بلا تاريخ ابدا لن تصنع مستقبلها، بل ربما يصنعه لها غيرها بما يفيده ولا يفيدها لتسير في ركابه وقد جردت من جلبابها لتلبس جلبابه، اللغة هي هوية الأمة، هي قيمها ومبادئها، وأخلاقها وشيمها، وعاداتها وتقاليدها ،وعلومها وثقافتها ، والأمة التي تنسلخ من لغتها تنسلخ من هويتها، لتصطبغ بصبغة غير صبغتها.
ونحن أمة الإسلام لغتنا هي ديننا، حفاظنا عليها حفاظ علي ديننا، والتحدث بها شعيرة من شعائره، وتعلمها فريضة واجبة بوجوب فهم كتاب ربنا وسنة نبينا وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.
ولغتنا هي لغة أقدس كتاب وأفضل رسول وأرشد أمة، وهي لغة أهل الجنة يوم يدخلها المؤمنون بما قدموا من صالح أعمالهم، ولذا يجب ان تمتليء قلوبنا لها حبا، ونفوسنا بها اعتزازا،وان نجتهد ان نتحدث بها، وان نقبل علي تعلمها وتعليمها، موقنين ان ذلك كله من شعائر الاسلام التي توجب لنا الأجر الجزيل والخير العميم.
والله عز وجل إنما اختارها لتكون لغة خطابه للبشرية ذلك لأنها أفصح اللغات وأقدرها علي توصيل أعمق المعاني بأدق ألفاظ وأوجز تعبيرات بما خصها الله به من كثرة مفرداتها ودقة دلالة ألفاظها، ولذا فهي لغة أثرت في كل اللغات التي احتكت بها في البلاد التي نعمت بالفتوحات الاسلامية أكثر بكثير من تأثرها بهذه اللغات، فتجد في هذه اللغات الكثير من الالفاظ العربية التي دخلت عليها في حين تجد ندرة في الالفاظ الأجنبية التي دخلت علي اللغة العربية.
وأنا وحيث أعيش في إحدي البلاد الافريقية وهي السنغال والتي يبلغ نسبة المسلمين فيها أكثر من خمسة وتسعين في المائة والتي وقعت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي لما يقارب الثلاثة قرون، وزرت قبلها سريعا دولتين وهما بوركينا فاسو وبنين، أكاد المس عن قرب ما قاله الاستاذ مصطفي صادق الرافعي، فبالفعل أول ما فعله المستعمر الفرنسي انه فرض لغته علي الشعب حتي أصبح الناس يتكلمون الفرنسية أفضل من تحدثهم بلغاتهم المحلية حيث لكل قبيلة لغتها التي تخصها ولغة التفاهم بينهم جميعا هي اللغة الفرنسية إذ جعلها المستعمر اللغة الرسمية في البلاد، فأصبح هؤلاء يقرؤون تاريخهم بعين المستعمر، وبستشرفون مستقبلهم بما يريده منهم المستعمر، وتغيرت عاداتهم. وتقاليدهم بما يتطابق مع عادات وتقاليد وأخلاق المستعمر حتي انك لتشعر انك في فرنسا الا ان البشرة سوداء، ولان اللغة العربية في السنغال أقوي بكثير من بنين و بوركينا، فان الدين عاطفة وغيرة ووعيا ين الناس في السنغال أقوي، وهو مع ذلك دين ضعيف ضعف اللغة بينهم ،إذ ان يد المستعمر ما زالت تعمل في البلاد رغم استقلالها الصوري فيحارب اللغة العربية بالتضييق علي مؤسساتها وضعف دعمها وعدم تبني الخريجين منها…
ان حراسة اللغة والارتقاء بها ضرورة شعبية وفريضة شرعية، وهي مسئوليتنا جميعا نحن المسلمين عربا وعجما، متخصصين وهواة، مؤسسات وأفرادا بما يحتم علي كل منا ان يقوم بواجبه كل حسب قدره وامكاناته :
*فعلي كل فرد في الأمة ان يبذل جهده لتعلم اللغة واتقانها والاجتهاد ان يتحدث بها ورحم الله الشهيد حسن البنا الذي أوصي اتباعه بهذه الوصية فقال :”اجتهد ان تتكلم العربية الفصحي فان ذلك من شعائر الاسلام”
*وعلي الدولة ان تعرب العلوم في كل التخصصات، ففارق شاسع في الفهم والإدراك بين من يدرس العلم بلغته ومن يدرسه بلغة غير لغته، وعليها مع ذلك ان تشجع البحث العلمي وان تفرض له من موازنتها العامة ما يكفيه، فالأمم تقبل علي تعلم لغة من يفيدها ويرتقي بها، ولقد كانوا يفدون علي جامعة القاهرة من كل بلاد العالم ليتعلموا عندنا علوم الطب والهندسة وغيرها أيام الحكم الملكي أيام ان كنا روادا في هذه العلوم الكونية ، فعلي الدولة ان تتجه لذلك، وعلي الأمة ان تطالب حكوماتها بذلك.
*وعلي المبدعين الا يتقوقعوا علي أنفسهم والا ينعزلوا عن مجتمعاتهم وان يسمعوا بني أمتهم ابداعاتهم ،فاللغة سماعية، ومتي سمعناها أكثر وتعاملنا معها أكثر صارت بيننا أقوي وأثبت، فلنقم الندوات والأمسيات ولنرتق بالأغنية الفصحي لفظا ولحنا ومضمونا، ولنقدم المسرحية الشعرية والمسلسل التاريخي والعمل الدرامي بلغتنا الجميلة فهذا أعظم أثرا في الارتقاء باللغة بل وفي إكسابها لغير الناطقين بها… واني لآسف إذ أري بعض المتخصصين في اللغة عندما يقدمون إبداعا يقدمونه باللغة الدارجه!!!!
*وعلي مؤسسات المجتمع المدني وقصور الثقافة ان تتبني الموهوبين مقدمة لهم الدعم المادي والمعنوي والمتخصصين الذين يصقلون مواهبهم ويرتقون بها نحو الأفضل ..
وأظن ان حراس اللغة ومحبيها والقائمين عليها يستطيعون ان بضيفوا الكثير والكثير الي هذه المقترحات بما يسهم في الارتقاء بلغتنا والحفاظ عليها قياما بالواجب واضطلاعا بالمسئولية وإعذارا الي الله ،ولا أجد شيئا أختم به أفضل مما قاله شاعر النيل حافظ ابراهيم متكلما بلسان اللغة العربية :
الي معشر الكتاب والجمع حافل
بسطت رجائي بعد بسط، شكاتي
فإما حياة تبعث الموت في البلي
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده
ممات لعمري لم يقس بممات