قل لي يا دبّاغ مالك..!
بروفيسور عبد العزيز كيبي
أَخْبرْني، هل تصل إليك أصداءُ القلوب المليئة بالمحبة، وأنفاسُ الأرواح المفعمة بالأمل في ربِّها وخالقها، وأنت في عالم البرزخ؟ وهل ترى تمايلَ الأجساد على إيقاع ذكر الهيللة عصر يوم الجمعة؟ هل ترى الأحباب رُكّعًا سُجَّدا، ملتزمين بالطريقة التي علمتنا إياها، والتي كنت تمثلها طيلة حياتك؟ لا تزال آثارك العظيمة حاضرة رغم غياب مُحَيّاك الباسم، في هذه الأيام المشرقة من سبتمبر، التي تتزامن مع شهر ربيع الأول، شهر ميلاد حبيبك، شهر الخيرات والنعم، موسم عيد الأرواح. وها تُعيدك ذكرياتُ القلوب مع ربيع الأكوان، إلى أبناء الدم والروح الذين ورثوا الرموز والقيم.
نعم، لقد كنت خير خلف لخير سلف، وقد منحك الله نعمة النجاة من حزن الإرث الضائع بسبب خيانة الورثة وتجاهلهم لواجباتهم المتمثلة في الحفاظ على الأمانة. يشير القرآن إلى هذا النوع من الورثة الخونة في قوله: “فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا”.
كيف يمكن لورثتك، الجسديين والروحيين معًا، أن يكونوا من تلك الأجيال التي تخون إرثها، وقد زَوَّدتَهم بالفكر والذكر لتحصينهم ضد مخاطر إهمال التراث، وما ينتج عنه من عار، حيث جعلوا من قولك المليء بالحكمة: (مُجّي بُوسُ بِ مُو رِير غاتْشِ لَ)، بوصلة توجههم في مسيرتهم اليومية. لقد نجَحتَ بإبداع في ترسيخ هذا المبدأ في نفوسهم وفي زَرْع القيم الروحية والاجتماعية في الأجيال الناشئة بلطف وحكمة، حتى أصبحَتْ كفاءةً طبيعية لديهم.
ويتجلى الجانب الثقافي والفكري والروحي من إرثك النفيس، في هذا الكنز الثمين المتمثل في مدح حبيبك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والصحابة وأولياء الله الصالحين الذين استقاموا على الطريق حتى سقاهم الله ماء غدقًا. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال توسلاتك المفعمة بالشوق إلى الله ترافقنا في مسيرتنا، وتُذَكِّرنا بأهمية نيل رضا الله في كل الأحوال، والذي هو غايتنا ووجهتنا المنشودة. ولا يزال هذا الإرث حاضرًا ومعروضًا ومتوارثًا في مختلف مراحل حياتنا مما يدل على مدى وفائك في تأدية الأمانة على أكمل وجه.
أليس هذا ما كنت تطمح فيه؟ أن تكون مُوفَّقًا بفضل الله في أن تترك لمختلف الأجيال تركة ذات قيمة، مصونة، وقابلة للتحديث؟ أليس هذا ما كنت تتمنى رؤيته في ورثتك من جهة الدم والروح، كي يدخلوا في عداد أولئك الذين يُثْني عليهم القرآن في قوله: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”؟
في صباح هذا الشهر من سبتمبر، الذي يشهد العديد من التحديات، والمليء أيضاً بالنعم والخيرات، يُظْهِر المؤمنون المخلصون أمام العالم مدى وفائهم لك، من خلال إحياء وتخليد أعمالك العظيمة التي تشهد على اهتمامك البالغ بمشاكل الآخرين، وتوجيهاتك الرامية إلى تحقيق السلام، كما تدل على تفانيك في الحفاظ على جناب توحيد الله، وإرشادك الروحي، والحوارات الحميمية التي كنت تجريها مع نفسك ومع المقربين، واستكشافك للحقائق الروحية دون فقدان صلتك بالحياة الواقعية، ودوامك في تكريس محبة الله دون تجاوز الحدود الدينية، واهتمامك العاطفي بالوحدة، وتضحيتك من أجل السلام، وأخيرًا إنسانيتك التي تعكس السيرة النبوية بدروسها وعبرها. هذه هي جوهر حياتك، وبصمتك التي تظل حية بيننا، ودليلا على بقاء ذكراك.
يا سيدي الكريم، يا “دبّاغ” الذي يُلَيِّن قلوبَ الناس، لقد أكملت على المستوى البشري مظاهر الكرامة قولا وفعلا، حتى أنهو يرددون: “دا بَاخ”. حقا! دا باخْ.
والآن، يا مولاي، أتوجه إلى ربي وربك، رب كل شيء، بكل وقار وانكسار، وبفائق الرجاء، سائلاً إياه أن يسبل عليك وافر نعمه ويجعل رضاه رداءك، أنت وكافة الأسلاف والأقرباء إلى يوم اللقاء. كما أدعوه عز وجل أن يعم أهلك وأحبابك بحماه ونعمه وسلامه ، كما كنت تُلِحُّ عليه، وهو القادر على ذلك. وصلى الله وسلم على الحبيب المصطفى وعلى الآل والأصحاب.