Articles

قراءة في رواية المغامرة الغامضة للشيخ حامد كان

تالا كاسي

جاءتْ روايةُ (المغامرة الغامضة) مُعْلِنَةً عن احتضار حضارة عريقة ، والتي انتهتْ إلى انطماسٍ كلّيٍّ عن حياة طفل متميّزٍ عن أقرانه ، كان أكبرَ أملٍ لشيخه أن يُنَصِّبَهُ يومًا مَا معلّمًا يشار إليه بالبنان لِمَا آتاهُ الله مِنْ مَتانةِ الذّاكرة وقدرةِ التصوّر والتفكّر٬ وكان بعضُ قومه قد علّقوا عليه أملَ التحرّر وحُلمَ الانعتاق من الجهل عن العلوم التّجريبيّة (الصناعة والهندسة والفيزياء وووو…) ممّا حملهم على إرساله إلى بلاد فرنسا ليتعلّم هناك ويتفقّه لعل سينتفع منه أهلُه يوم يعود إليهم ،
غامر سمب جالو إلى الغرب وكلُّه حزمٌ وجدّية ونيّة وإرادة٬ وَإِثْرَ رَدْحٍ من الزمن من إقامته وملازمته للبيض طَفِقَتْ رؤيةٌ فلسفية جديدة تتسرّب إلى مِزاجِه ، وتستولي على كيانه الفكريّ وهي بكلِّ أطرافها مغايرةٌ ومضادّةٌ لمعتقده الدينيِّ الأصيل ، وجزءٍ كبيرٍ من ثقافته الإفريقية ، وبإمكانها أن تُحدثَ في داخله ثورةً وانتفاضة على تقاليد قومه ( آل جالوبي ) وأعرافهم عند عودته إليهم جرّاء احتكاكه بالإنسان الأبيض وحداثة عهده بالبيئة الغربية.

إنّ هذه المغامرة تحكي صراعا مريرٍا بين بدايةٍ وامضةٍ في الكُتّاب ونهايةٍ غامضةٍ في الغرب
بين قراءة خاطئة للواقع وتَكَهُّنٍ حائِدٍ عن القادم ،
بين حضارة محفوفة بالهوية الدينية ، وأخرى روحُها انْحِطَاطٌ عقائديٌّ وأخلاقيٌّ ، تدعو إلى الحُرّيّة الكاملة للإنسان في اعتقاده ما شاءه من مجريات الكون ، دون الاحتفال بماهو موافق لشرائع الله ومناهجه المرسومة للمخلوقين على وجه هذه الأرض .

والرّابح الوحيد في هذا الصّدام البريح والمستمرّ هو التاريخ ، إِذْ يتجلّى من إعادة صفحاته وتقليبها حمتيّةُ الاعتبار والقياس بين الماضي والحاضر للأجيال الرّاهنة ، فَتَتَّقِدُ جذوةُ العناية بالذّات لنفض الغبار عن المناهج التعليمية المقرّرة في المدارس الإسلامية العربية في أفريقيا٬ فالعمران البشري في المجتمعات الإسلامية يتوقَّفُ -أولا وقبل كل شيء- على بناء عقلية الطّفل وِفْقَ مُعطيات دينه العقديّة ، مع عناية عالية بمقتضيات عصره العلميّة والمعرفيّة ومحاولة التّوفيق بين الدّين والحياة ، وبالتّالي يكبرُ الطّفلُ وتكبر معه عقيدتُه النيّرةُ ، حيث لا تجرفُها ولا تقتلعُها تياراتُ التّنصير ولا عواصفُ الإلحاد مهما يكن من أمر.

فالركام المعلوماتي وشرارةُ حبّ المعرفة وإرادة التّفقّه في العلوم الفكرية هي التي شوّشتْ دماغ سمب جالو ولوّثتْ مصيرَه وجعلتْه يتيه بين أزقّة الشّكّ والرّيبة في كلّ مسألة دون أن ينتهي إلى نتيجة.

لعلّ غِيرةَ الدّين واللون لا تؤاخذُ سمبا جالو على كثير من هفواته ، فلقد كان آلةً تجريبية ترواحتْ بين ثقافتين مختلفتين ، وساعتَئِذ لم يكن يتملّى نموّا فكريا يتشبَّثُ به ليقاوم قَدْرَ استطاعته تلك الوثبات والهجمات الفكرية عليه ، إِذْ كان يستحضر كثيرا شَيخَ آل جالوبي ، ويرى شبحَه في جوِّه كي لا يقع في أَسْرِ من يحملون أفكارا هدّامة معاندةً لشريعة محمد.

إن هذه الرواية تبرهن عن كون شِيخْ حَامِدُ كَانْ أديبا قويّا متفرّدا شديدَ الاقتناع بالذّات التّليدةِ والتّراثِ الحضاريّ الزنجيّ ، يظهر ذلك بوُضوحٍ عندما حاول أن يتناول النّظامَ القمعيَّ الاستعاريّ الفرنسيّ ضدّ الزنوج ، الذين ذاقوا مرارة الاضطهاد والعبودية وَأُبِيدَ الكثيرُ منهم جرّاء ترحيلهم قسرا عَبْرَ الجُزُرِ إلى أوروبا
كما قارن بين الألمان والفرنسيين في تعاملهم مع الأفارقة أيّام الاستعمار ، والمفارقات الثقافية بينهم ممّا يبرهن على أن الإنسان الألماني أرحب صدرا وأكثر رحمة من الإنسان الفرنسي آنذاك
وهذا جليٌّ بلا مِرْية ، ويمكن أن يُتَلَمّسَ في الكتب التاريخية المتناوِلَة للاستعمار الغربي ضد الأفارقة٠

اِسْتَخْلَصْتُ من قراءتي لهذا العمل الأدبي المتفرّد أنّ بعضَ مَنْ تعلّموا في الخارج (بلاد العرَب أو الغرْب) واستوردوا حضارات الغير وثقافاتهم ، حتّى في الهندام والكلام والتي لا تتطابق مع أعرأفهم الأصيلة
تكون لديهم مشكلة الاندماج إلى المجتمع والتفاهم مع الأفراد في وضعيات متعدّدة ، ومع الأسف يحول الجريض دون القريض.

شكرا للدكتور محمد سعيد با العلّامة السنغالي والمترجم لهذه التحفة الأدبية العتيقة ، حتّى تمكّن دارسو العربية من اكتشاف ما فيها من أبعاد فنّية وتاريخية وفلسفية ، تنير لأيّ قارئ إفريقي درب التّحدّي أمام الغرب ومحاربة الغزو الفكريّ بكلّ أَضْرُبِهِ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى