actualite

في ظلال الحروف

المختار السالم

كم من أمورٍ تنضجُ دونَ نار.

قلتُ لصَاحبي، الذي تفصلُ بينه وبينَ جيلهِ ملايينُ السنواتِ “أعرفُ أشياء غريبة إلى حدٍّ ما. لذلكَ أبحثُ بشكْلٍ “تماثلي” عن المعنى ولو في تخمين خديج، تخمين فحسبْ”.

ذاتَ ليلةٍ شِتائية في “آمليل” الخلاب نزلتُ ضيفاً على “ديبه”. كانَ النَّسيمُ في مُراهَقَتِهِ الفذَّة يُنغِّمُ أعشَابَ الشِّتاءِ بِـموسيقى عجيبة.. بادرني باستفساره التقليدي “ما آخر ما قرأت.. ما آخر رؤيا في منامكِ”.

“ديبه” إنسانٌ مفتونٌ بالفِكرِ والحُلمِ. يؤوِّلُ الرُّؤيا بمزيج فريدٍ من الغرائبيةِ والمأثوراتيةِ.

قرأت لفلانٍ وفلانٍ.. ولكنَّ فهْمي كانَ صِفْراً. وفي ليلةٍ طفلةٍ من صَفَر “تلـثَّــمْتُ على رؤيايَ” في منحى الهيْنمَةِ..

أتعلمُ أنَّ في الـمُخَيلةِ الصَّحراويةِ الـمُفعمةِ بالشَّمْسِ والعتمةِ والريح المُـتْـرَبَةِ ما يثيرُ اهتمام القرويينَ الذينَ لا يتوقعونَ من الريفيينَ تقليد الغبارِ في أهمِّ صِفَاتِــهِ؟

يا “ديبه”.. إنَّ “فنَّ التراكم” أنـــتَجَ نصْف الحَضارةِ. والنصف الآخر وكّل بهِ العقلاء، بينما تؤول الاتهامات إلى الشعراءِ المجانين بتهمةِ إشعالِ النارِ. والحقيقة أنَّ العقلاء هم أكثر من يشعلُ الحرائقَ ومن يسعرها، وهم سدنةُ حطبها ودخانِها. بل هم المسؤولون عن تاريخ النارِ في العالمِ، ولا يوجد “حريق تاريخي” واحد أشعلهُ مجنون.

ولكن إن كنْتَ قارئاً عنيداً مثل تجار التجزئةِ في دكاكين فلاسفةِ “الوسط الليبرالي”، فالنار الوحيدة التي أشعلها المجانين هي نار الحُبِّ والعِشْقِ والهُيامِ، التي لولاها ما انقدحَ شررُ الريبةِ في ذمةٍ، وما كانَ عطنُ الوجعِ قد ترمَّل قبل إخلاء النّية أو إخلاصِها للثلجِ الذي يبدِّدُ الفصولَ داخلَ أنفاسِ الزَّمنِ.

يا “ديبه”.. “جمِّرْ، و”صفر”.. فقد أفرغتَ ذهني ولما تملأ بطني.. ومع ذلك سأتحدثُ إليكَ.

من الأشياءِ الغريبةِ التي يختصُّ بها مُـجْتمع “المفازةِ الغباريةِ” حجم عُدَّته منَ “اللامعقول” وإن مكنهُ ذلك من أن يصبحَ الأسرع والأقدر على التدوير من “اللامعقول” إلى المعقولِ.

كان مجتمعاً يصنعُ همومَه واهتمامَاتَهِ باستفراغِ ذمةِ الودعِ وقرونِ الوعْلِ وضرْب الرمالِ وتأثيثِ الفقاعاتِ، التي أصِرُّ دائماً أنها أثرى محتوى في الكأسِ.

العقل الشاعريِّ في الصَّحراءِ، لم يستسلم لفراغ الكأسِ ولا لتفريغها، حتى ولو لم تبق بها غير فُـقَاعة! لقد كانَ عقلاً ريادياً استَـثْمرَ في الفقاعاتِ وبها فكَّكَ الحزنَ والألمَ والمستحيلَ والبغضاء والشحناء، وبذرَ الأملَ والنجاحَ واستمرأ المعجزاتِ.

ليس فعلاً حرائقيا أن تُطفأ النَّار بالنَّارِ. لكن من المخجلِ أن يغطىَّ عار بعار. كما نشاهدُ اليوم في الحركة البطيئة لإطفائية كبار فلاسفة أوروبا المعاصرينَ حول إشكالياتِ “زماننا هذا”.

فباستعراضِ أفكارِ هؤلاءِ عن أزمةِ وباءِ “كورونا”، مثلا، يتضح أنَّ الفارق بين تصورات (جيجيك، وأغامبين، وهابرماس، وريث مدرسة فرانكفورت… )، هو “فارقٌ لُغويّ” يدعو، في حالة حذفِ الألقاب البالونية، إلى الافتخارِ بمجتمع “المفازة الغبارية”.

إنَّ الأحلام ليست مهنة الفلاسفة. مهنتهم هي “ما بعد الحلم”.. ما قبلَ الواقع وما بعده، وصعودهم لا يكونُ منْ فوق الأسوارِ وظهورِ الأحْصِنةِ.. بل إنَّ الارتقاءَ يظلُّ أخلاقياًّ في جوْهرهِ، شَاعِرياًّ في تصوّرهِ.

صبَّ لي كأساً آخرَ… وإلا فلن أعرف كيفَ أرسو بـ”خُلاصاتِ الشِّمْعِ” في مرفأ الريح!


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى