في ظلال الحرف
المختار السالم
الكاهنُ الأول لم يكنْ شَاعراً، فالشِّعر ما فطرَ الشَّرَّ قَطّ، والكاهنُ الأول احتاج إلى إسنادِ حظّهِ بالسحرِ فربط قلب زوجتهِ بالتمائمِ والطلاسمِ، بينما ظلَّ الشاعرُ يوزع القصائدَ والورودَ والخيولَ والنوقَ البيضَ.
ولقد جعل الشاعر من رفْضِ الشعوذةِ النقدية “فعلًا شعرياً”، وبموقفه هذا قطف ثمرةَ العزِّ “قبل نضوج التِّـين والعِنَبِ”. بالنِّسْبَةِ له الشّعر تميمة الحضارةِ، وسيظلُّ في الومْضةِ والنَّغْمَةِ يُطْفِــئِ بالشَّمْعَةِ ما أعتمَ بالدَّمْعَةِ.
إنَّ الفلاَّحَ يجرِّفُ حقلَهُ ويُـشْعِلهُ، إنه يفرح بألسنةِ اللهب التي تأكل الأعشابَ الضَّارةَ، وتطِّهر التربةَ من آثام الآفاتِ استعداداً لإخلاء ذمة منجلهِ في مواجهة الأرض الموات، التي تدمي البصرَ، فيتم تجميلها حرقاً حتى تُهْدِب فوقها الدخانُ تعويذةً للماءِ، فلا تُوصم بالأرض التي يعافها المطرُ.
الشَّاعر الحداثيُّ ليس اٌقلَّ جرأة ومغامرة منَ الفلاح البدائي، الذي أحسَّ منذ ملايين السنين أنَّ عليه “جلب الموات إلى الموات”.
النار خمرة سمادِ الحقلِ، والسنابلُ تنمو خضراء كالدخانِ، ثمَّ تشقرُّ كألسنةِ اللهبِ، ثمَّ تبيضُّ طحيناً فخبزاً يعانق الملحَ على لسانٍ ذربٍ أو ترِب.
لا بدّ من مغامرةٍ لاجتيازِ المداورة. والتحنيطيون الذينَ ينصِّبُونَ أنفسهم حراس ذائقة لا يبشرونَ بخير ولا يبعثون أملاً، وعلينا بشكل دائمٍ “تسفين” مواجهتنا معهم، وإلغاء الحواجز أمام “الحالاتِ الطوفانيةِ”، فالطوفان بشارة خير حين يتحول إلى “إلياذة غرق” تبطش بسُتراتِ النجاةِ التي يتعلق بها من لا “يستشعرون”، ولإن كانَ الظنُّ فاكهةَ الكهنةِ الأدعياءِ الذينَ يُظـلُّونَ ذاكرة للشطآنِ فثمة ذاكرة للنسيانِ وأخرى للغفرانِ..
مزاعم رفض الذائقةِ الموريتانيةِ للحداثةِ الشّعريةِ أمرٌ يُشكِّلُ أحجية.
قبل مائتي عام دعا الشُّعراءُ الموريتانيونُ إلى “ثورة تحديث للشعرِ”. أحسَّ أولئك الشعراء بأنَّ شيئا ماً يجب أن يحدث. وسكان الصحراء أكثر الناسِ استشعاراً للصمت الذي يسبقُ العاصفةَ.
الدعوة التي أطلقها شعراء موريتانيا من مضارب البدو ومن على ظهور العيس لتجديد الشعرِ كانت قبل مئتي عام، وسبقت بمائة عام نظيرتها في المشرق.
هناك نقطة مهمة. يعتقد كثيرون أنَّ الدعوة الموريتانية لتجديد الشعر العربي السابقة لزميلاتها زمنيا بقرنٍ كامل غير منقوصٍ ظلت مجهولة ومعزولة، ولم يعلم بها أحد.
حسنا. من يزعم ذلكَ لا نقرُّ برأيهِ. فالشناقطة أنشدوا قصائدهم في كل بقعة من الوطن العربي، بفضلِ رحلات الحجيج، ذلك الكنز الحضاري الذي لم يفطرْ منجميتهُ أحد حتى الآن.
أجزم أنَّ قصائد سيدي محمد ولد الشيخ سيديا أنشدت في الكوفة والبصرة وبغداد والقدس ودمشق وحلب والقاهرة والخرطوم وصنعاء بعدَ مدن وقرى طرق الحج كلها. وكانت أجيال من الشناقطة تحج ولا تعود، فتتجه للسكن في الشآم، حيث المسجد الأقصى والعاليات “كوفاتٍ وقلاعاً”.
بعض التاريخ القريب يخْبرنا أنه، كنموذج، “محمد الأمين ولد فال الخير” الشنقيطي مؤسس “مدرسة النجاة” في بلدة “الزبير” بالبصرة وهو أول فرض تدريس البنات هناكَ، جاء بعلمهِ وبأدبه من هنا.. أيعقل أنَّه وأمثالهُ من فطاحلة العلماء وفتيان الحجيج الشنقيطيِّ لم يكونوا ينشدون لكبار شعراء القطر، الذين حجَّ كثيرٌ منهم أيضا، وكانوا يُستقبلون في قصور الملوكِ والسلاطين والأمراء في كلِّ قطر.. يسبقهم صيتهم الذائع.. قبل أن تأتي من وراءِ البحارِ محولاتُ “تَـشْـقِـيْـر الشِّعرِ”!