Culture

في ظلال الحرف ..


المختار السالم

الشَّفقُ نَخْبُ الغُروب الأسْطُوريّ، نَخْبُ النَّظَرَاتِ المأسُوْرَةِ بأهدابِ الذي صدَحَ وجيبُ قلبِه في صومعة فيها يتحول المريد إلى وريد، والتأمل إلى حالة عقاب على الصّحو.
شَفَقٌ أوّل لأسْمَاءٍ سمّينَاها بأنْصَافِ النّـبَـراتِ، فما ذلّت لكاهنة الخواءِ، وما ناجَـتْ سبلاً بلسان نَــرْد، لأنّ لسان النّرد قد يستزله السكونُ فيستوي بالزللِ، فيخفقهُ الرامي قريناً للتجديفِ بأسْفَارِ الأبديةِ… أسْمَاء لا إثمٌ عليها في اللَّغْوِ، ولا تنوين فيها باغتراب هو حجّةً للإلهام وعليهِ في ذاتِ المخاطرة، وكنّا يوم العقيقة بتلك الأسْمَاءِ نستبردُ سهامنا بجلدةِ الطّبلِ، ثمّ نفضي إلى “المسمى” بآنيةٍ تفيضُ بالأوانِ فيض السنابكِ بالوقعِ، ويقيناً أنَّنا لم نأبه بشعيرةِ الانحسار.. ولم لا نستوعب حُدُود لحمنا بأظافرنا؛ وإن كُـنّا مُـقنعينَ في العَـزْوٍ إلى مَسْرَى البشَاراتِ بطمسِ هويةِ الهَاوية، وترفيع الثُّـقُـوْب في النايِ وفي غربال رغيف الخبز.. أوليس من النَّزيفِ ما يُـشفي، ومن البتر ما يكمل.
شَفَقٌ ثانٍ لأشكالٍ نَحَتْـنَاهَا في تَـمَادٍ مُفرطٍ وجريءٍ في اللامعنى كطريدة تحيد عنها سهامُ العقلِ حتى تفطر فجاجا في أكمة ما قبل التاريخ..
أشْكَال تُـولدُ سافرة باللّـثامِ، وتحبُـو في المراضع منقبة بالنياتِ لا بالقناعِ دونَ أن تشيخَ في حُدُودِ الخافت الذي ينقبُ المرآةِ بالطينِ.
أشْكَال تسرحُ في تهويماتِ عتيقة بذاتِها، وتطوِّح بكل مستلزمات الاعترافِ لأنَّ ما من رسم مسؤول عن هيئتهِ.. والأشْكالُ حين تُـرْسَم أو تنحتُ ليست مدينة لنا بأيِّ شيء إلا أنْ تعبثَ بذوقنا من خِلالِ ما يعيبه الآخرونَ فيها من فطرة المِخْيَال.
شَفَقٌ ثَالِثٌ لشراراتٍ استقدحاناها في أخشابِ الوادي الأمغرِ، وادي سيدي أبي السدر، الدرويش الذي يصف روحه بهلامٍ لاصقٍ كتلك اللحظات الصمغيةِ، التي يستدرك فيها للشمس حرزاً، وللغروبِ تعويذةً ما بعد الحنينِ لناسكٍ حَـبًّـــرَ جبْهته لَـثْـم التُّـرابِ.
ما كانَ لأبي السدر أنْ يضلّ وقد أصْبَحَ الطريق قلبهُ، فأوعز بالعادةِ خرقاً، لأنَّ الصهيلَ لم يعد مِيْــزَة للحصانِ، في ظلِّ المدائن الطروادية، والضفائر لم تعد دليلا للذبيح لأنّ دمية باربي طاولت عبلواتِ نساء بني عبس قامة وغنجا ودلالة وبطء مسير دون أن تصبحَ كومة من اللحمِ والشحم العليل.
شَفَقٌ آخَـر لأوتَارٍ نُرمِّد بها عطبَنا الأخيرَ؛ نحنُ الآثمونَ في تمائم نيطتْ على أثرٍ لا على قدم، وعلى مأثور لا على أثير، نحنُ السارحون، الحفاةُ على رصيفِ الهيمانِ بعد أنْ دثَّـرنا الظّلَّ إرقاءً لخَطْوٍ يخدنُ وطلسمةً لحِسٍّ يؤتمن على أحبالنا الصَّوتية في زَمَنٍ أدْمنَه الصًّائحُ من جَـوفِ هُـبلِ حتى “أشرب البوقَ”.
هذه “الأشْفاق” لا تنذرُ بأيِّ ترياقٍ لداءِ فَـرْطِ العتمةِ عند الزجالينَ المحليينَ.
وهذا ليس صَوتُ الحداثةِ، كما قد يزعمُ “المتهجئة” من أولي الإربَةِ في محاذاةِ المُكَاء المبحوح، لأنّ الحداثةَ لا تملكُ رفاهية الإخلالِ بناموس “المُـضِيِّ صَـمْتاً”، والحداثيونَ قوم مشاؤونَ بالخطلِ والعطلِ، وهم لا يخدعونَ بإبهار بصريّ يتمظهرُ في شكلٍ أو لونٍ أو بُـعْـد.. ويردون على من يغريهم بـ”ردة فنية” بأنَّ الدّخان لا يعلو بعُـلُـوِّهِ، ولا تُـمُدَحُ بخضرائِها الدِمَنُ.. كلاًّ.. وقد نَـزيدُ من أزبدَ بأنَّ الرّيح لا تَـصْـفرَّ حَرَجاً من أحَدٍ.


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى