actualite

في زحمة التدافع الحضاري …كيف نسوق حقائق الإسلام؟

د. محمد سعيد باه

سؤال مستفز يفرض نفسه بقوة بقدر ما يوجب علينا أن نواجهه بصلابة وشجاعة ، وإلحاحه يتعاظم يوما بعد يوم إلى درجة التضخم بفعل هذا الركام الذي يكاد يحجب حقائق هذا الدين الخاتم ، الذي ائتمننا الله عليه ، عن البشرية المتعطشة إلى ما يروي ظمأها والتائقة إلى الحق والخير والجمال !
لما تقاعسنا عن عرض ما في أيدينا من قيم حسان تصلح وحدها لتزيين جيد البشرية طفق القوم التائهون ينقبون عنها في الأوثان والأوتاد ويتخيلونها في العاريات من الصور وفي الهابطات من المعاني . وانطلت عليهم خدع كثيرة ..
على المستوى الشخصي ينتمي هذا السؤال إلى الأسئلة التي ظلت تطاردني منذ فترة ” ما دفعني إلى محاولة تلمس جوابه فيما سبق من خلال شرح بعض تجلياته في سياق قريب عبر مقال لي حمل عنوان: “لماذا نهمل عرض لوحات الخير والجمال “؟ (1) .
ساعة نمعن النظر في واقع الأمة اليوم ، يبدو أن تطامن هم حمل الأمانة وأرق التبليغ اللذين كانا بمثابة ثقافة عامة تسري بقوة في صفوف الأمة الإسلامية عصر كانت شديدة الالتصاق بدينها، قد ترك في جماهير الأمة انعكاسه ثم أخذ يسري في صفوف من خصوا بأكبر قسط من ميراث الأنبياء كما ينص على ذلك من أنزل الكتاب بالحق: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران :187)
في زحمة هذه الحياة التي تكاد وتيرتها المتسارعة تطحننا طحنا وتجرفنا عواطفنا غير المنضبطة فنتوهم أن شرح حقائق الإسلام وتقديمها للعالم لا يتم إلا في إطار معقد من التعاليم متجاوزين عنصر البساطة التي هي أولى خصائص هذه الرسالة المفتوحة الموجهة إلى البشرية ، وهي الخاصية التي تتجلى في هذا النص البسيط الذي شدني كثيرا وأنا أقرأه وهم ” السؤال – العنوان ” ماثل أمام عيني جاثم على عقلي:
“علمني الإسلام:

احترام والدي؛ أن أعطي المحتاج: أن أحب البشر مهما كان لونهم وأصلهم؛ ألا أرفع صوتي: أن أرد بذكاء وحكمة؛ أن أكون حييا؛ أن أعرف قيمة الأشياء؛ أن أبحث عن المعرفة وأحارب الجهل: في الواقع أثمة ما هو أجمل من أن أكون مسلما؟” (2).
يجمل بنا ونحن نحاول سبر أغوار الموضوع ، أن نورد لفتة أخرى من الروعة بمكان نرى أنها تحسن بسطا لما نتوق إلى سوقه من المفاهيم حتى نحدد ولو بصورة تقريبية كيف نرى توزع المسؤوليات علينا في تحتم
عرض الصورة الصحيحة والجاذبة لهذا الدين الذي تناهي في الجمال لكن مسلكيات متسخة ومتراكمة تظل تحجبها عن الناظرين ، ولولا ما يكتنزه من طاقة ذاتية خلاقة تبقيه في المدار لكان الناس قد انصرفوا عنه بالكلية بدلا من أن نشاهد قفز الآخرين فوق الحواجز العاليات ليرموا بأنفسهم في أحضانه بحثا عن دفء الإيمان ومتانة الإسناد لمواجهة الأعاصير التي تمزقهم كل ممزق.
نجد هذه اللفتة شاخصة في المنشور الذي تدوول عبر وسائل التواصل الاجتماعي حين سارع لاعب ” الركبي ” العالمي المسلم سوني وليامز إلى احتضان طفل كان رجال الأمن على وشك الانقضاض عليه حين تسلل إلى وسط الملعب ثم اصطحبه إلى والديه وسط ذهول الجمهور فتوج ذلك بخلع الميدالية الذهبية التي كانت على رقبته ليضعها في جيد الطفل قائلا: ” إنها في جيده أجمل “.
في ظني، لا جدال في أننا نعيش ما يمكن أن ننعته بعصر ذي سوق مفتوح تعرض في جنباته كل البضائع أما القانون الصارم الذي يتحكم فيه فذو شقين:
جودة البضاعة وحسن العرض .

انطلاقا من هذا يحق لنا أن نتساءل: أيعاني المسلمون من رداءة البضاعة أو من قلتها ما يجعل حضورهم في السوق باهتا لا يلفت واردا ولا يشد طالبا أسوة بغيرهم ممن نجح في توريد بضاعات في غاية الفساد لكن حسن عرضها جعلها تتسلل
حتى إلى عقر مخادعنا؟

كلا!
فقد وسم الله رأس مالهم (كتاب الله الأخير المهيمن) (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (الإسراء: 82).
أبعد الشفاء والرحمة من مطلب!
أليس من مواصفات نبي هذا الدين الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب: 45- 46).
أم الإعاقة كامنة في الطرائق التي يتبعونها لعرض ما بأيديهم من لآلئ ما جعل رواد السوق لا يتوقفون عندهم ولا يلتفتون إليهم؟
بين فينة وأخرى يجتذبني وضع جداول أسجل فيها بعض ما أسمع الدعاة يقدمونه مطالب للإسلام على الخلق الوفاء بها وإلا هلكوا وبارت تجارتهم مع الله ” وبعد كل فرز كومة من تلك الطروحات أجد انه كان الأولى بهم أن يحسنوا عرضها وطريقة الدعوة إليها.
بدلا من هذا المسلك النبيل ترى بعضنا يستميت في حصر الإسلام في تلك الجزئيات التي لا يستسيغها عقل مستقيم ولا يقبل عليها ذو ذوق سليم ثم يملأ الكون ضجيجا بأن هذا هو لب الإسلام ولحافه، فإذا تأملنا جيدا نجده مشمولا في اللائحة القرآنية التي حدد الله بها وظيفة خاتم الأنبياء وإمام رسله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157) .
من الحقائق التي يحسن الالتفات إليها في هذا المقام أن رسالة الإسلام من الاتساع زمانا والشمولية مضمونا بحيث لا يعقل حصر مهمة البلاغ في إطار كهنوتي ضيق يؤدي في نهاية المطاف إلى تشويه الرسالة الإنسانية التي تمثل جوهر هذا الدين ، مع قبولنا بتفاوت الأحجام وبالتالي مراعاة الأحمال تبعا لذلك كما يجلي ذلك حديث أصناف الأراضي المستقبلة للمطر (3)، نصر على أن النسبة العالية من أمانة حمل وإيصال القيم الإيجابية ثم الحفاظ عليها تبقى واقعة على الطائفة المتقدمة ممن أورثوا الكتاب.
ويتقوى هذا بحقيقة أنه حين يطرح القرآن مبدأ الأسوة الحسنة كان من أجل مراميه إيجاد صيغة في غاية الفاعلية من اجل جعل القيم الإيجابية التي ما جاء الإسلام إلا لغرسها وجعلها أسس التعامل في العالمين ميراثا نتلقفه جيلا إثر جيل كي لا يتعلل متعلل بأنه كان في الجانب المظلم من الجبل.
من أولى الدروس التي تعلمناها فيما يتعلق بانتقال شعلة الحضارة الإسلامية إلى هذه البقاع النائية عن مهبط الوحي ومنبع النور الهادي، أن ذلك لم يتم على وقع قرقعات السلاح وسنابك الخيل وإنما انسل إلينا النور في هدوء وبلا جلبة من خلال بسمات رجال أطهار يحملون بضائعهم على ظهورهم وجذوة الإيمان الصافي في قلوبهم متقدة بينما كان عنوانهم الخارجي الصدق في الأقوال والأمانة عند التعامل بالدرهم والدينار؛ فأخذ قومنا يتساءلون من أي كوكب وردنا هذا الصنف العزيز؟ ولما نقبوا وجدوا في العمق جذر عقيدة صلبة لا عهد لهم بمثلها فسارعوا إلى اعتناقها ثم ما لبثوا أن ساحوا بدورهم في البلاد يبشرون بها وبعضهم يتاجر والبعض الآخر لابس أكفانه حتى كانوا ممن دكوا أبواب الغرب عند الزلاقة (4).
مثل هذا التوهج الإيماني هو الذي شد “محمد أسد” وهو يجوب بعض حواضر بلاد المسلمين بحثا عن بدائل عن تلك القيم الساقطة التي يريد التخفف منها، إذ أرهقته وقومه؛ وجدهم يتنافسون على الخير تدل أفعالهم على سمو أخلاقهم فكانت صورة آسرة لا تقاوم لدى الضمائر الحية للباحثين عن موقع الواحة الوادعة.
كان حمل القيم الإيجابية وسيظل مهمة تناط بأهل الإسلام جميعا كل حسب حجم دلوه لكن القسط الأوفر لمن اصطفي واصطف ضمن موكب من ارتقى من موقع الصلاح إلى مرتبة الإصلاح كما يرسم لنا مشهد الكليم (عليه السلام) لما كان
على مشارف مدين غريبا لاجئا يبحث عمن يؤويه:
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)) (القصص :23-24).

ثم، ألا يجسد هذا الموقف النبيل صحة مقالة “الأفعال اعلى صوتا من الأقوال!”؟

كاتب وأكاديمي من السنغال

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى