رفاق #عبدالمقصود_خوجة يودعونه بالقصص ودموع الذكريات
د. اشرف سالم
مثل نافورة جدة وعميدها الاتحاد وراقيها الأهلي؛
ورواشين حاراتها الأربع وقصر خزام وبيت نصيف ومسجد المعمار وسهرات الصهبة على لعبة المزمار، مثل كل هذه المعالم كانت اثنينية الخوجة معلمًا من معالم جدة يتقاطر إليها مواكب المثقفين والإعلاميين كل اثنين ليلتقوا مع كوكبة من نخبة المفكرين والعلماء والأدباء من المملكة وسائر أرجاء الوطن العربي؛ ليحظوا بالتكريم والاحتفاء في رحاب الاثنينية.وبرحيل مؤسس الاثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة رحمه الله؛ انطوت هذه الصفحة ولكنها ستبقى صفحة بيضاء ناصعة خُطت فيها سطورٌ من نور في التاريخ الثقافي للمملكة.
بدأت الاثنينية بتاريخ (22-1-1403هـ -8-11-1982م)بتكريم عبد المقصود محمد سعيد خوجة لصديق والده الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل والأديب والباحث الرائد في مجالات عدة فروايته (التوأمان) يؤرخ بها كبداية للرواية السعودية، ورسخ المساء الأول للاثنينية في الذهن الثقافي لتأتي الأمسيات التالية مثار حوار ونقاش لمشروع ثقافي غير تقليدي تميز بحوار حر وشخصيات مؤثرة في الوجدان والعقل.
وليأتي بعده في التكريم الأحياء من أصدقاء والده الأساتذة: الشاعر طاهر زمخشري، وعبد المجيد شبكشي، وعبد الله بلخير، ومحمد حسين زيدان، وحسين عرب، وعزيز ضياء، وحسين باشا سراج، والسيد أحمد عبيد، ومحمود عارف، وأحمد العربي، وعبد العزيز الرفاعي، وطارق عبد الحكيم، في السنة الأولى. وهكذا استمرت الاثنينية على مدى 35 عاماً.
الدور الذي قامت به الاثنينية حتى اللحظة رغم توقفها يعد دوراً رائداً في تقديم أو إنتاج مصدر ثقافي كبير للحركة الأدبية والثقافية يمتد أثره إلى أجيال قادمة بحكم التوثيق ليكون مرجعاً علمياً للباحثين في هذا الشأن، وكان آخر من كرمته بحضور صاحبها تكريمه للباحث وعالم الآثار البروفيسور سليمان الذييب بتاريخ 25 / 5 / 1436هـ – 17 / 3 / 2015م. ثم تولى بعده إدارة بقية أمسيات ذلك العام ابنه المهندس محمد سعيد خوجة. وآخر من كرم قبل توقفها الدكتور عبد الله الفيفي بتاريخ 1 / 7 / 1436هـ 21 / 4 / 2015م.
إسهامات وطنية منوعة
يقول المستشار الاجتماعي د. خالد عبد القادر الحارثي : ما أن يُذكر ( خوجة ) إلا ويتبادر لذهن المستمع ( اثنينية خوجة ) ذلك المنتدى الشهير والذي تجاوز صيته حدود الوطن وأصبح علامة فارقة في الوطن العربي رغم كثرة المنتديات الادبية والفكرية والثقافية، فعرّاب المنتدى لم يكن شخصية عادية أحبت الظهور فأطلقت مشروع يجذب الاعلاميين وإنما هو أديب ابن أديب ورجل دولة له مكانته الاجتماعية التي جذبت كافة أطياف المفكرين والمثقفين والأدباء بالوطن العربي لمنتداه الأنيق بداره العامرة على مدى أربعة عقود أثروا ونثروا ضيوفه خلالها إبداعاتهم التي وثّقها رحمه الله للأجيالما بين مصورة ومكتوبة بمجلدات حرص أن يقدمها للمجتمع مجاناً.
ولفقيد الوطن إسهامات وطنية منوعة قد لا يعلمها الغالبية شارك فيها إما مؤسساً أو عضواً في أكثر من 50 جهة مابين مراكز وجمعيات خيرية وطبية وبحثية وتعليمية ورياضية كان له دور بارز ومؤثر في مسيرتها إما بفكره أو ماله الخاص..كما أن للفقيد مواقف إنسانية عديدة ساهم في حلها رحمه الله إما بوجاهته الاجتماعية داخل وخارج المملكة، نسأل الله عزوجل أن يتغمده بواسع رحمته ويجعل ما قدمه لنفسه ووطنه في موازين حسناته.
نبت في تربة المجد والعطاء
فقيد الوطن الأديب الإنسان الرائع عبد المقصود خوجة الذي رضع لبان الفكر، ونبت في تربة المجد والعطاء؛ لذلك فإن الفضل لا يستغرب من معدنه، فهو سليل بيت علم وفضل وأدب، والده الأديب الكبير الرائد محمد سعيد عبد المقصود خوجة كان من كبار أدباء ومفكري الرعيل الأول في هذا الوطن منذ بدايات العهد السعودي، وكان رئيس تحرير أول صحيفة سعودية صدرت في العهد السعودي وهي صحيفة: ( أم القرى)، كانت للأستاذ المؤرخ والراوية محمد حسين زيدان – رحمه الله – مقولة صادقة وهي: نشأ فينا رجال لم يصنعوا الأدب ولكنهم نشروه فكانوا بذلك أكثر من صانعيه؛ وهو ما ينطبق على عميد الثقافة وفقيد الوطن عبد المقصود خوجة؛ فقد كان الوفاء هاجسه كقيمة عليا وهو يسهم في إشاعة النور وبث المعرفة والحضور المتعاظم في مشهدنا الثقافي، ولذا فهو حالة استثنائية عميقة التجذر في واقعنا المعاصر.
فقد فتح بوابة جوده وجهوده خدمة للعلم والمعرفة واشاعة روح التواصل والتلاقي بين المثقفين عبر مساحة وطننا الغالي في “دارته الرحبة”، وعدّت مؤسسة الفكر العربي، عبد المقصود خوجة (رحمه الله)، أديباً ورجل أعمال، قاد العديد من الأنشطة الثقافيّة والاجتماعيّة في السعوديّة، أبرزها تأسيسه منتدى «الاثنينية» الثقافي الأدبي، وهو رئيس مجلس إدارة مجموعة خوجة، وله نشاطات تجاريّة وصناعيّة وعقاريّة متعدّدة في المملكة وخارجها. وهو مؤسّس وعضو شرف في كلّ من بيت التشكيليّين، وبيت الفوتوغرافيّين، وعضو شرف في النادي الثقافي الأدبي في جدّة، ونادي مكّة الثقافي الأدبي، وعضو مجلس إدارة النادي العلمي السعودي.
وهو أيضاً عضو رابطة الأدب الحديث في القاهرة، ومجلس شرف مركز جدّة للعلوم والتكنولوجيا ومجلس الآثار الأعلى، وعضو مؤسّس في مركز خالد الفيصل لإعداد القيادات، والبنك السعودي الأمريكي، ومركز تاريخ مكّة المكرّمة.
دعمه للثقافة عابرٌ للحدود
من على سواحل المحيط الأطلسي كتب لنا الأستاذ فاضل غيي إعلامي وأديب سنغالي أشرف على إنشاء عدة مجلات باللغة العربية في السنغال مثل مجلة الصحوة السنغالية، ومجلة الأفق الجديد، ويرأس حاليا نادي السنغال الأدبي في داكار؛ وكان صديقا للمرحوم الشيخ عبد المقصود خوجة الذي دعم بسخائه المعروف جهوده في إصدار مجلات سنغالية بلغة الضاد.
خبر انتقال الشيخ الوجيه عبد المقصود محمد سعيد خوجة إلى جوار الله وصلنا كالصاعقة، لا لأننا نجهل أن الموت مصير كل حي؛ ولكن لكون كريم الأدب خوجة فريدا في همته متميزا في حسن عنايته بالأدب والأدباء، وبالشعر والشعراء، بكل صاحب عطاء وحتى بالفقهاء والدعاة والاعلاميين والنقاد في داخل المملكة وخارجها يندر أن نرى ملياردير في حجم عبد المقصود ينفق أمواله على الابداع والمبدعين ويلتزم بدعوة الجميع إلى دارته تلك العامرة في جدة لتكريم أصحاب المواهب والمواقف.
تعرفت على الشيخ خوجة في تسعينيات القرن الماضي من خلال صديق عمره ورفيق دربه الدكتور عبد الله مناع رحمهما الله، وصافحته لأول مرة ليلة تكريم الناقد المصري الكبير “بدوي طبانه” ليلتها فاجأني صاحب الاثنينية بتشريفي بالجلوس على منصة التكريم حيث يجلس الضيف المحتفى به مع كبار الشخصيات وعلية القوم، يومها أدركت أن هذا الشيخ الذي يُقدِّرُ إعلاميا من غرب أفريقيا يعتبر نفسه تلميذا أمام هؤلاء الكبار لجدير بلقب “الوجيه ” وإن جاءت هذا اللقب بعد سنوات من هذا اللقاء الأول، وليس من شك في أن الذين عاملهم فقيدنا العزيز الشيخ عبد المقصود خوجة بمثل معاملته لي بالعناية وحسن الحفاوة كُثر.
وقد أخبرني ذات يوم الشاعر الجميل واللطيف أحمد سالم باعطب رحمه الله أنه “لولا الشيخ الوجيه عبد المقصود خوجة لما رأت دواوين وأعمال الكثير من الشعراء والمؤلفين النور، فقد تفضل جزاه الله خيرا بطباعة العديد من المخطوطات التي عجز أصحابها عن طباعتها على نفقته الخاصة “.
والحق أنني اكتشفت بفضل اثنينية الشيخ خوجة الوجه الآخر للمملكة العربية السعودية، وجه الثقافة والأدب، وقبلها ما كنت أعرف عن المملكة غير أنها بلد الحرمين الشريفين، وبلد النفط والثراء لأن صالون الشيخ عبد المقصود كان ملتقى مهما للمبدعين، ومتنفسا لأهل الفكر وعشاق الشعر والأدب.
وأريد أن أسجل هنا شعورا وهو أننا فقدنا خوجة يوم فقدنا إبنه “إباء ” الذي وافته المنية فجأة دون سابق إنذار، وأثر هذا المصاب الجلل على الشيخ الوالد عبد المقصود تأثيرا كبيرا أزعم أنه ملأ عليه جنبات نفسه.رحم الله حبيب الملايين مكرم الأدب والأدباء والثقافة والمثقفين عبد المقصود خوجة رحمة واسعة وأدخله جنة الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.
الاثنينية بقلم مؤسسها
يقول الشيخ عبد المقصود خوجة رحمه الله: تشكلت العديد من الروافد لإثراء الثقافة والحوار بين مختلف الأمم والشعوب والحضارات، وجاءت المنتديات الأدبية كواحد من هذه الروافد، تظهر تارة وتختفي أخرى حسب توفر المناخ الملائم لنموها وازدهارها، وكثيراً ما تتضافر جهود بعض المثقفين الذين شغلت الكلمة حيزاً كبيراً من فكرهم ووقتهم فتُنبت تلك المنتديات أجمل الأشجار المثقلة بثمار العلم والأدب والشعر والفكر.
وفي هذا الإطار قامت “الاثنينية” ترجمةً لما يعتمل في نفسي تجاه الحركة الأدبية والثقافية عامة وبصفة خاصة في المملكة العربية السعودية، وبدأت كمنتدى أدبي للاحتفاء ببعض رموز الشعر والأدب والفكر منذ عام 1403هـ – 1982م، كما استمدت جذورها من حفلات التكريم التي كان يقيمها والدي (رحمه الله) على ضفاف مواسم الحج لكبار الأدباء والشعراء والعلماء الذين يأتون ضمن وفود بلادهم لأداء مناسك الحج .. واستمر خط “الاثنينية” البياني في التصاعد لتكريم أصحاب الفضل الذين أثروا الساحة الأدبية بعطائهم، باعتبار أن الكلمة ليس لها وطن، والإبداع ملك للجميع.. وبالتالي توسعت دائرة اهتماماتها لتشمل رجالات الأدب والثقافة والعلم والفكر وغيرهم من المبدعين من مختلف أنحاء العالم العربي.
وأنفق كثيراً من وقته، وماله، وجهده، وعافيته، لتكون “الاثنينية” رسالة محبة، وجسر تواصل مع مختلف الثقافات.. فلهجت بالثناء على المملكة ألسن شتى، ورأتها بعين البصر والبصيرة أعين مختلف ألوانها، فلم تجد بداً أن تضع ملف الصورة النمطية “النفط والصحراء” جانباً، وتعلي من شأن الفكر، والثقافة، والمنجز الحضاري، والخلق الرفيع.. لقد عمل هذا “الرجل” على مدى أكثر من ثلث قرن إسهاماً مقدراً في رفع راية أمة “اقرأ”، وتكريس صورة مشرفة لوطنه.
سادن الثقافة في المملكة
من ألمانيا تلقينا مشاركة مثقفٍ من المقربين للشيخ عبد المقصود رحمه الله هو الأستاذ إحسان صالح طيب الأمين العام السابق لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية قال فيها: هذه رسالة صوتية عنونتها باسم (رحم الله سادن الثقافة في المملكة العربية السعودية ) أعبر فيها عن بعض مشاعري ولا أشك أن غيري يشاركني فيها عن نبأ فقيد بلادي الحبيبة والعالم الإسلامي الوجيه المرحوم بإذن الله الشيخ عبد المقصود خوجة والذي أوصفه بـأنه سادن الثقافة في المملكة العربية السعودية بعد أن وصلني خبر وفاته وأنا أقضي إجازة مع أسرتي في ألمانيا،عبد المقصود خوجة يرحمه الله ابن هذا الوطن الكبير والكيان العظيم فتح داره للمثقفين والمفكرين والأدباء والعلماء.. لم أفاجئ بالخبر لأن الموت علينا كمسلمين حق وأرجو الله له أن يكون من النفوس المطمئنة الراجعة إلى ربها راضية مرضية والداخلة بفضله ورحمته جنته ولا أقول إلا ما يرضي ربنا .. إنا لله وإنا إليه راجعون وأسأل الله له شفاعة وصحبة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
طافت بي الذكريات وفاضت العبرات على فقيد الأمة العربية والإسلامية والذي حظي بتقدير ولاة أمرنا يحفظهم الله وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين .. عندما كان مريضا وزاراه في المستشفى التخصصي بجدة وكان وضعه الصحي في آخر أيامه يعني متعب وكان يتوقع الانسان مثل هذا الوقت وأن شعرت والتلفزيون يستعيد بعض هذه اللقطات وأنا في الغربة بالعز والفخار لبلادي وقياداتها وأعود وقد شاهدت التلفزيون وهو ينقل خبر وفاة الشيخ عبد المقصود .. واستضاف التلفزيون الدكتور زيد الفضيل أحد أبرز ممثلي الثقافة السعودية المعاصرة وهو يتحدث عن الفقيد رحمه الله معددا مآثره ومناقبه ودوره في الحياة الثقافية في المملكة العربية السعودية خاصة والعالم العربي والإسلامي عامة وحفاوة الشيخ عبد المقصود وعنايته بالأدباء والمثقفين وقد كنت أحد الذين شرفهم بالتكريم ضمن المئات ممن كرمهم في اثنينيته المشهورة والذائعة الصيت.
إصدارات الاثنينية
وقد نشرت فعاليات الاثنينية في اثنين وعشرين جزءاً 1403 -1426هـ. كما نشرت ستة وأربعين عنواناً في ستة وتسعين مجلداً لكبار الأدباء والشعراء تحت مسمى “كتاب الاثنينية”. وبلغ مجموع إصدارات الاثنينية أكثر من 185 مجلدًا وعلى الجانب الآخر استضافت الاثنينية على امتداد مشوارها في الاحتفاء بالمثقفين والمفكرين داخل وخارج المملكة وكرمت 530 عالما ومفكرا وأديبا ومنحته رابطة الأدب الحديث بالقاهرة الزمالة الفخرية تقديراً لجهوده في رعاية الحركة الأدبية والفكرية في المملكة، وتم تكريم الاثنينية كمؤسسة ثقافية من قبل وزارة الإعلام العام “2010”.
احتفى الراحل بكل منجز أدبي، وسخّر المال لخدمة الثقافة الإسلامية والعربية ومفكريها رجالاً ونساءً، وجمع وطبع ونشر نتاج «الاثنينية» في 31 مجلداً، وموّل ترجمة؛ العمل الموسوعي العملاق عن الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس، الذي أشرفت على تحريره سلمى الخضراء الجيوسي، ونشره في أصله الإنجليزي مركز دراسات الوحدة العربية من تأليف نخبة من الأساتذة العرب والأجانب، ثم تولى خوجة تمويل ترجمته إلى العربية، وطبعه في جزءين من 1550 صفحة، ونشر كتاب (عبد الله بلخير يتذكر) لمؤلفه خالد باطرفي 1419هـ في 725 صفحة.
عبد المقصود خوجة الأديب المتواضع
يقول الصحفي المخضرم محمد خضر الشريف: ذات مساء استضافت اثنينية عبد المقصود خوجة أحد الدعاة المشاهير في مجال الرقى الشرعية وعلاج العين وإخراج الجن وهو شيخ من المدينة المنورة وكان له صيتهً في هذا المجال، وكان هذا الأمر له انتشاره وذيوعه في تلك السنين الخوالي..ولما كان للضيف شهرته العارمة وقد توقف فجأة عن نشاطه؛ فآثرت أن أستضيفه في حوار خاص لصحيفتي، وبالفعل ما إن انتهت الأمسية، وقبل تناول طعام العشاء تقدمت للضيف على المنصة أعرفه بنفسي وأستسمحه في موعد لحوار غير أنه اعتذر لي بأدب وكررت الطلب فكرر الاعتذار لظروف خاصة.
تركته وذهبت مع الذاهبين للعشاء، وما إن أمسكت بصحني في صف الواقفين بالبوفيه المفتوح حتى فوجئت بالشيخ عبد المقصود خوجة رحمه الله يربت على كتفي وقد ترك المنصة والضيف والحضور وهو يبحث عني، وما إن رآني حتى أخذ بيدي للمنصة وأجلسني مع الضيف، واستسمحه في الحوار لي، وخجل الرجل وهو يعتذر ويبرر بأنه أقسم بالله ألا يدلي بتصريح أو حوار صحفي بسبب مشكلة كبرى تسببت له في حرج كبير مع جهات الإفتاء بالمملكة؛ وطيب خاطري بقوله: وعد علي ما إن تنتهي المشكلة حتى يكفر عن يمينه ويكون ضيفي للحوار..
شكرته وشكرت الشيخ خوجة لأدبه الجم وتواضعه وحرصه على أن يطيب خاطري ويكرمني بهذا الاهتمام والبحث عني والعمل على جلوسي مع الشيخ بحرص كبيروأدب ورقي خلقي عظيم رحمه الله.
الخوجة والاثنينية .. ثنائي متلازم
الاثنينية هذا الصالون الثقافي الجدي / الجداوي، السعودي، العروبي والإسلامي والعالمي أصبح سمة ملازمة لعبد المقصود خوجة فهما يشكلان ثنائياً لا يذكر واحد إلا بملازمة الثاني! وأصبح وسماً ثقافياً لجدة والتاريخ والثقافة والحضارة فلا يكاد زائر يمر عليها إلا ويسأل عن (الاثنينية) وعن منجزاتها وعن صاحبها الرمز / العلم رحمه الله.
وتعد الاثنينية محطة بارزة في الحياة الثقافية في المملكة، وفقد كانت أشبه بمؤسسة ثقافية تعقد اجتماعا مساء كل يوم إثنين في جدة، ليتم الاحتفاء برموز الأدب والشعر والفكر.
ففي ذلك المنتدى الثقافي تم تكريم أسماء مهمة لمعت في مجالات الثقافة والفكر والأدب من الجنسين، مثل زكي قنصل من الأرجنتين، ومن الهند الشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، وألكسي فاسيليف من روسيا، وأوليقبريسيسلين، والسفير بنيامين بوبوف والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، وصفية بن زقر، وحياة سندي، ومريم البغدادي، وخولة الكريع.
هيبة ووقار وكرم وبشاشة
ويتحدث المستشار الإعلامي بجامعة جدة وعضو الجمعية العمومية بنادي جدة الأدبي الثقافي الاستاذ مشعل الحارثي فيقول : رحم الله الشيخ عبد المقصود خوجة فهو من الشخصيات التي لا يمكن لكل من عرفها أن ينساها وينسي ما كان يحيط بها من هيبة ووقار وكرم وبشاشة وطلاقة وسحر هادئ عجیب، وسيظل بصمة مشرقة في صفحة الثقافة السعودية ، وستظل أعماله ومنجزاته نبراسا ومعينا لا ينفذ للأجيال القادمة ونحن عندما نستذكر مسيرته مع الاثنينية نستحضر في نفوسنا ووجداننا نموذجاً فريدا من البذل والعطاء والبساطة والأدب الجم وسعة المعرفة والثقافة وسلاسة التفكير والتعبير ورؤيته الصائبة في الكثير من القضايا الثقافية السائدة في الساحة الأدبية والفكرية ولعل خير شاهد على ذلك ما كان يلقيه من كلمة بليغة متدفقة بالصور والمعاني في تقديم ضيوف اثنينيته والتي تعكس شخصيته الثرية الباذخة بالفكر والأدب والتي تمثل في حقيقتها دراسة قيمة وجادة شاملة مختصرة تحيط بالعديد من جوانب الضيف العلمية والشخصية وأوجه تميزه .
ولو تم جمعها لكانت في حد ذاتها مرجعا مهما عن تلك الشخصيات التي استضافها والتي تفوق (450) شخصية على المستوى المحلي والخليجي والعربي والإسلامي و هذا جانب واحد فقط من جوانب تميزه في اثنينته الفريدة التي تحتاج كل منها إلى عشرات الصفحات ، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح الجنان وجزاه عنا وعن جمهرة الأدباء والمثقفين خير الجزاء.
أمسيات لاتنسى
عن الاثنينية وصاحبها الشيخ عبد المقصود خوجة يقول الأديب والباحث الدمشقي عبد المجيد الزهراء: لقد عشت وغيري أمسيات مترعة بالحب .. وعزيزة بالعلم والفوائد؛ على امتداد أكثر من عقدين من الزمان .. ازدهرت فيهما جدة العروس بأماسي اثنينية الخوجة،فرحمة الله تعالى وبركاته على هذا الرجل الذي أخذ زمام المبادرة و قام بعمل طيب وجهد مبارك.فأسس لأمسية باذخة .. بذل لها من جهده ووقته وماله ما أضحت به معلما بارزا من معالم مدينة جدة ردحا من الزمن امتد حتى وقت قريب ..(اثنينية) عبد المقصود خوجة ..
الذي نعاه لنا الناعي بالأمس كانت مراحا يستريح فيه أهل الأدب والثقافة.. ومحطة يتزودون منها علما وفكرا ..فعبد المقصود خوجة كان يفرح بالتئام محبي الفكر والأدب واجتماعهم وتقاطرهمإلى دارته مساء كل اثنين في عرس ثقافي أدبي كبير ..يحتفي فيه بأحد الرواد والأساتذة الذين كان يدعوهم من داخل وخارج المملكة ..، ليسعد الحضور بهم … والحمد لله فقد أسعدنا الزمان بلقاءهم والاستماع منهم والتلقي عنهم …وكم كان يسعد عبد المقصود حين يرى الكل مبتهج والكل سعيد وفرح … بلقاء هؤلاء الأعلام ،.. ويمضي الوقت مسرعا لتختم الأمسية بمائدة لذيذة من الطعام الشهي بعد أن أخذ الجمع حاجتهم من الزاد الفكري وأطايب الأدب والعلم.رحم الله هذا الرجل عبد المقصود خوجة ..وأجزل مثوبته .. لقاء ماقدم لبلده .. ومجتمعه …ولمعارفه وأصدقاءه … ولمحبي العلم والمعرفة وشداة الأدب.
الاثنينية بالأرقام:
1403/1982 بدأت الاثنينية كمنتدىَ أدبي
471 مفكرا وشاعرا وأديبا وعالما أكاديميا تم تكريمهم في الاثنينية
33 ألف صورة توثيقية ينشرها الموقع الإلكتروني لفعاليات الاثنينية
31جزءًا من سلسلة الاثنينية تم نشرها عبر الموقع الإلكتروني
187 مجلدا جمع وطبع ونشر نتاج “الاثنينية”.
19كتابا من إصدارات الاثنينية من الأعمال الكاملة والمؤلفات والسير الذاتية
رسالة من الحرم المكي
من المسجد الحرام بمكة المكرمة كتب لنا د . يوسف حسن العارف المؤرخ والشاعر والناقد؛ وأحد أكثر المقربين من الفقيد الراحل قائلاً: بقدر فقدنا للقامة الثقافية والمشعل التنويري الوجيه عبد المقصود خوجة إلا أننا سنظل على تواصل دائم مع منجزاته التي خلدتها الاثنينية عبر عمرها المديد فلم تكن هذه الاثنينية مجرد صالون ثقافي يستضيف الرموز ،ويكرم العلم وأهله بل كانت جامعة منتجة ومحفل يوثق فعالياته، وكان له رحمه الله حضوره المؤنس وابتسامته المتوهجة ولغته الحجازية الأنيقة، ومن مقولاته التي تتردد على لسانه: ( ليس لي الا هذا المقعد الذي اقتعده)؛ ومقولته (اللي يشرفنا يكرمنا) .كان رحمه الله شخصية مقبولة ومتقبلة، ولها كاريزما ذات جاذبية عالية يجعلك تشعر باصطفائه لك دون سواك …أذكر عتبه اللذيذ إذا تأخرت أو غبت عن الاثنينية …والذكريات أكثر من المساحة الكتابية …فله عزاؤنا ودعاؤنا وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان الشيخ عبد المقصود يسعى حثيثًا إلى استقطاب الأدباء والكتاب من داخل المملكة وخارجها مما أدى إلى انتشار الاثنينية في العالم العربي والإسلامي، وأذكر أنه ذهب بنفسه إلى الرياض عندما علم أن الشاعر العراقي الكبير الجواهري حينما كان مشاركًا في الجنادرية؛ لكي يدعوه ليتم تكريمه في الاثنينية؛ وكانت أمسية رائعة لهذا الشاعر الكبير.
وختم د. العارف كلمته عن الأديب عبدالمقصود خوجة بأبيات رثائية بعنوان:
نبأ سرى فتزلزلت أركاني وانهد حيلي واستراب كياني
وتساقط الدمع الهتون فليتني لم أسمع الأخبار في الإعلان
قالوا توفى قلت للفردوس من كانت شواهده على الأعيان
نور من التقوى على شرفاته وعلى يديه شواهد التبيان
إصدارات الاثنينية
لم تقتصر اثنينية عبد المقصود خوجة على المحاضرات والندوات التي تقام في رحابها ويتم توثيقها بالصوت والصورة، ولكنها توجهت لإصدار الكتب القيمة وبخاصة ما يتعلق منها بالأدب السعودي فأصدرت تحت عنوان «كتاب الاثنينية» العديد من الأعمال الكاملة لأدباء ومؤرخين وشعراء سعوديين منهم على سبيل المثال وليس الحصر «الأعمال الكاملة لكل من محمد حسين زيدان، وعبد الحميد عنبر، وعزيز ضياء، وعبد الوهاب آشي، ومحمد إسماعيل جوهرجي، وإبراهيم فودة، وحمزة شحاتة ومصطفى عبد الواحد زقزوق، ومحمد صالح باخطمة، وأحمد العربي، ومحمد عمر عرب، وعبد الحق بن عبد السلام النقشبندي، وحسين عبد الله سراج، وغيرهم كثير في مجالات المعرفة المتنوعة.
توجت الاثنينية عملها الثقافي من خلال توثيق اللقاءات مع الشخصيات المكرمة وطباعتها في سلسلة من إصدارات الاثنينية وجميعها مجانية لا تُباع، ولها موقع على شبكة الإنترنت WWW.ALITHNAINYA.COM يضم كل الإصدارات التي نشرتها تحت مظلة «كتاب الاثنينية» إضافة إلى فعالياتها بمسمى سلسلة «أمسيات الاثنينية».. وقد تم حتى الآن رصد 67 عنواناً في 178 مجلداً (مئة وسبعة وثمانين مجلداً) في 81.268 صفحة (واحد وثمانين ألفاً ومائتين وثمان وستين صفحة)، وبعدد 3324 صورة (ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وعشرين صورة فوتوغرافية).
إن المتصفحين لهذه المطبوعات والمشاهدين لتلك الفعاليات المتنوعة سيجدون علماً غزيراً وفكراً جديراً بالمثاقفة والإفادة تشكل كنوزاً عظيمة من المعارف والثقافات المتجددة.
لتستمر”الاثنينية” باعتبارها إرثاً ثقافياً فريداً
ومن على ضفاف النيل جاءتنا مشاركة المخرج المسرحي عادل زكي قائلاً: كل التحية والتقدير لمسيرة “الشيخ عبد المقصود خوجة” التي اتسقت مع سيرته العطرة ليظل رمزاً خالداً في سماء الثقافة العربية والإسلامية؛ فالراحل شكر الله عندما أعطاه فوهب جزءاً كبيراً من ثروته لخدمة الفكر والعلم والثقافة..
ليعلي من قامة وطنه إثر احتضان “الاثنينية” لكافة قامات الوطن العربي والإسلامي في مختلف المجالات والتخصصات.. لقد كنتُ محظوظاً بمتابعة ندوات وأمسيات وتكريمات “الاثنينية” لأعوامٍ عديدة.. وكانت لي مداخلاتٌ مع الفرسان المكرمين لمزيدٍ من الاستفادة بحوار العلماء والصفوة، كما لاأنسى مشاركتي النقدية في الأمسية الرائعة التي استضافت صديقتنا الشاعرة الكاتبة الأستاذة بديعة كشغري وتم تكريمها كشاعرة متفردة.
لقد أحسن د. زيد الفضيل بدعوته لتبنى “الاثنينية” لتستمر بعد رحيل مؤسسها باعتبارها إرثاً ثقافياً فريداً أصبح من تراث جدة.. ولعل معالي وزير الثقافة يستجيب لهذه الدعوة ويتواصل مع أولاد الراحل العزيز لهذا الشأن.. ورحم الله رجلا صادقاً مع نفسه وربه.
الحديث عن عميد الثقافة وفقيد الوطن لا ينتهي؛ وثناء من عرفوه وتقريظ من استفادوا بمنجزاته محيط متعالي الأمواج مترامي السواحل ذاخر باللؤلؤ والمرجان؛ نختتمها بقصيدة الشاعر والإعلامي د. أشرف سالم؛التي ألقاها في احتفالية الاثنينية بعيدها الخامس والعشرين:
جئنا نسوق الورد والريحانا = نصغي للحن شنف الآذانا
يا ربع قرن من فؤادي تحية = صاغت حروفاً هيجت أشجانا
نثرت عليك الفضلَ اثنينية = نزجي لها التقدير والعرفانا
أمسية للحب صارت معلما = أضحت على درب الوفا عنوانا
ساقت ضياء الحب نحو أحبة = بعطائهم قد شرفوا الأوطانا
كم من كريمٍ كرمته كريمة = بالأمس عانى الهجر والنسيانا
أرباب آداب وعلم نافع = ورجال دين عظموا الديانا
وجدوا بمحفلكم كريم عناية = وبمنتداكم أصبحوا الفرسانا
لولا الرعاية من كرام المجتبى = لقت الثقافة ذلة وهوانا
هذا الوفي ابن الأكارم خوجةٌ = بوفائه قد جاوز الأزمانا
أهدى إلى التاريخ مجد عصابة = لولاه ضاع كأنَّه ما كانا
نفض الغبار عن اللآلئ فازدهت = وسقى اليباب وفجّر البركانا
فجزاه ربي خير ما جازى امرأً = أحيا الوفاء وناهض النكرانا
لك من سويداء القلوب تحية = يا محسنا كم كرم الإنسانا
ثم الصلاة على النبي محمد = من عطرت أنفاسُه الأكوانا