تأمُّلات في أصناف المِياه في القرآن.
شعيب بن حامد لوح
يقول -تعالى-: {ونادَى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفِيضُوا علينا من الماء أو مما رزَقكُم الله قالوا إن الله حرَّمَهما على الكَافرين} (الأعراف: 49).
حَدتْني هذه الآيةُ التي فيها تصوير لمشهد عظيم يوم القيامة، تمثل تَحاور الكافرين في النار مع المؤمنين في الجنة، إلى التأمل لأصناف المياه الواردة في كتاب الله العزيز.
هذا الحوار -إخواني- يأسَر القلب ويُوقظ ضمير القارئ للقرآن على أن حُطام هذه الدنيا سريعة زوالها، سيعضُّ من لم يُقدم خيرا يتزوَّدُ به في الآخرة على يديه ندَما وحَسرة.
في هذا التَّحاور بيان مركزية مادة الماء؛ إذ أهل النار قدَّموا في طلبهم الماء على الرزق الذي يراد به الطعام، كما قال ابن عاشور: “والرِّزْقُ مُرادٌ بِهِ الطَّعامُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ﴾ (البقرة: 25).
والفيض حقيقته سَيَلانُ الماءِ وانْصِبابُهُ بِقُوَّةٍ ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا في الكَثْرَةِ، واستعمالهم (من) الذي بمعنى (بعض) يفيد على شدة حاجتهم للماء، أي: قدموا لنا ماءً ولو حُسوة واحدة.
اعلم أن الماء ذاع وروده في القرآن على معان عديدة، فهو المادة التي منها خلق الله كل دابَّة، في قوله -تعالى-: {والله خلقَ كل دابَّة من ماء} (النور: 43)، وهو قِوام الحياة، وضرورة من ضرورات العيش، قال -تعالى-: {وجعلنا من الماء كلَّ شيء حَيٍّ} (الأنبياء: 30).
وتظهر أهمية الماء أن بيان الله يربط به حياة النباتات التي بها يعيش الناس والحيوانات، وهذا النوع من الماء هو (المطر)، وقد سماه الله بأنواع من الأسماء منها الماء الثَّجاج والغَدق والمُبارك، قال -تعالى- {ونَزَّلنا من السماء ماء مُباركا فأنبتنا به جَناتٍ وحَبَّ الحَصيد} (ق: 9)، وكل النباتات التي تخرج من الأرض بتنوع ألوانها وأصنافها فهي من ماء واحد، كما يفيده قول الله -تعالى-: {وفي الأرض قِطعٌ مُتَجَاوراتٌ وجناتٌ من أعنابٍ وزرعٍ ونَخيل صِنْوانٍ وغيرِ صنوان تُسقى بماء واحد ونُفضِّل بعضَها على بعض في الأُكْل إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون} (الرعد: 4).
ومن أجل الماء تتروَّى هذه الأرض وتهتزُّ وتخضرُّ وتتزيَّن بهجة وجمالا، بعد أن كانت ميتة خاشعة عاطشة هامدة، يقول -تعالى-: {وتَرَى الأرضَ هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّتْ ورَبتْ وأنبتتْ من كل زوْج بَهيجٍ} (الحج: 5)، وقال أيضا: {أو لم يَروا أنا نسوقُ الماءَ إلى الأرض الجُرُزِ فنُخرجُ به زَرعًا تأكلُ منه أنعامُهم وأنفُسهم أفلا يُبصرون} (السجدة: 27).
ويُلفت بيان الله نظر الناس كثيرا بما يُحييه الماء من الأراضي الميتة وذلك حين يشبِّه هذا الإحياء بإمكان البعث والإحياء بعد الموت، في مثل قوله -تعالى-: {وهُو الذي يُرسل الرياحَ نُشرا بين يديْ رحمته حتى إذا أقَلَّتْ سَحابًا ثِقالا سُقناهُ لبلد ميتٍ فأنزلنا به الماءَ فأخرجْنا به من كل الثمَرات كذلك نُخرج الموتى لعلكم تذكرون} (الأعراف: 56)، وقوله -تعالى-: {ومن آياته أنك تَرى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمُحيِي الموتى إنه على كل شيء قدير} (فصلت: 38).
ومن مادة الماء خلق الله الإنسان وهو ماء (المني)، الذي وصفه الله بالمَهانة والدَّفق، في قوله -تعالى-: {ثم جعل نسلَه من سُلالة من ماءٍ مَّهين} (السجدة: 7)، وقوله -تعالى-: {فلينظُر الإنسان ممَّ خُلق خُلق من ماء دَافق يخرجُ من بين الصُّلب والتَّرَائب} (الطارق: 5-6-7).
ويَجيء ذكر الماء في القرآن في معرض المَن للبشر، قال -تعالى-: {أفرأيتُم الماء الذي تشربونَ أأنتُم أنزلتُموه من المُزنِ أم نحنُ المُنزلون} (الواقعة: 71-72)، والماءُ المَسكُوب أحد أبرز الأرزاق في الجنة وذلك عبر الأنهار التي منها: الماء واللبن والخمر والعسل…
ومن أصناف المياه ماء البحر الذي يصفه الله بالعَذب الفُرات السائغ شرابه، والملح الأجاج، في قوله -تعالى-: {وهُو الذي مرجَ البَحريْن هذا عَذبٌ فُرات وهذا ملحٌ أُجاجٌ وجعل بينهُما بَرزخًا وحِجرا محْجُورا} (الفرقان: 53)، ومن فوق البحر تجري الفلك، كما يستخرج من ماء البحر اللحوم الطرية والحُلى التي تزين الجيد.
وكون الماء مصدر عيش كريم، كذلك كان أداة هلاك واستئصال قوم كقوم نوح الذين أهلكهم الله بالطُّوفان لما طَغوا وبغوا، فقد فتح الله فوقهم أبواب السماء بماء مُنْهمر فالتَقى بماء العيون التي في الأرض، وكان هلاكهم، وبالماء أيضا أغرق الله الطاغية فرعون وجموعه، كما وصف الله أن شراب أهل النار يكون بماءٍ صديدٍ وحميمٍ يقطعُ الأمعاء، ويَشوي الوجوه.
إلى غير ذلك من آيات تُوضح متانةَ العلاقة بين الكون والماء، وتُشدد ضرورة وجود ماء وفير كي تستقيم الحياة، كما تُنبه إلى وُجوب العناية بتوفير ماء صافٍ يُشفي غَليلاً ولا يُسبب عَليلاً.