
الصوفية في السنغال قاومت الإستعمار والتعصب في إفريقيا ..
كتب: محمد المشهداني -الشراع
الصوفية في السنغال بين التيجانية والمريدية ولاهينيةوالقادرية.
دولة السنغال بموقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي يربط بين القارات أفريقيا وأوروبا والأمريكيتين وممر الطرق الجوية والبحرية والبري. بهذا الموقع المهم جعل السنغال محط أنظار القوى الكبرى وتأريخيا سيطرت على السنغال عدة ممالك عبر القرون وتنافست وتصارعت عليه القوى الأوروبية ، وهذه الدول هي : هولندا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا حيث إرست هذه البلاد قواعدها في دولة السنغال هناك سعيا وراء الموارد الطبيعية كالذهب والعاج والصمغ والمحاصيل الزراعية الغنية، إلى تجارة الرقيق وانخرطت القوى الأوروبية في بيع الملايين من الأفارقة ضمن ما يعرف بتجارة الرقيق عبر الأطلسي . وكانت سفنهم المحملة ببضائع تجارية تصل إلى غرب أفريقيا ليبادلوا تلك البضائع بمستعبدين من أسرى الحروب ،أو ضحايا التجارة المحلية المزدهرة في أسر الرقيق وبيعهم .وصارت تجارة الرق في السنغال مصدر دخل مهم بالنسبة للنخب السياسية الحاكمة آنذاك. وفي ظل معارضة الفئات المسلمة من المجتمع الذي انتشر فيه الدين الإسلامي مبكرا عبر المعلمين والتجار في القرن الحادي عشر . و إحتجاجا على الأستعباد المتزايد آنذاك للمسلمون الأحرار. ظهرت مقاومة مسلحة ثورية بقيادة الشيوخ وعلماء مسلمين .
أبرزهم (الإمام عبد القادر كان) وهو معلم القرآن الكريم الذي تحول إلى قائد حركة ثورية مسلحة ، إستطاع فيها منع مرور تجار الرقيق الأوروبيين عبر نهر السنغال ، وكان يحرص على تفتيش السفن الفرنسية العابرة للتأكد من عدم وجود مسلمين من المنطقة على متنها. لكن عهده لم يدم طويلا نتيجة تحالف القوى المؤيدة لتجارة الرقيق ضده ،منها الإستعمار الفرنسي وبعض القوى الداخلية.
ارتبطت المقاومة في السنغال بإحدى أهم وأبرز وأقدم المستعمرات لدى فرنسا بهذه المقاومة المتمثلة بالطرق الصوفية التي تلعب دورا مهما و أساسيا وحيويا في المجتمع ذو الأغلبية المسلمة نحو 96 بالمئة من السكان .
و من أكثر تلك الحركات حضورا هي التيجانية ، وهي طريقة صوفية أسسها الشيخ أحمد التيجاني المولود في الجزائر في العام 1737. وأنتشرت في منطقة الصحراء على يد الحاج عمر طال الفوتي درس الشيخ عمر القرآن الكريم على شيوخ منطقته وحفظه في سن مبكرة ،ثم درس التجويد وعلوم القرآن الكريم على يد أخيه الفقيه أحمد إبن سعد ،وسافر بعدها إلى عدة دول في النيجر وتمبكو والقاهرة وفزان ومنطقة الشرق الأوسط، وكما سافر إلى الحج عدة مرات وعاد لينشر الإسلام والمعرفة في كامل أفريقيا وخاض حروبا كثيرة ضد المستعمرين، وأخذ الطريقة التيجانية عن الشيخ السيد محمد الغالي في المدينة المنورة ، وأجازه فيها بعد صحبة دامت ثلاث سنوات، وكان من خلفاء الشيخ أحمد التيجاني مؤسس الطريقة ، ليترسخ بعد ذلك حضورها في السنغال على يد أهم الشيوخ الكبار أمثال الشيخ مالك سي ، ويعتبر السيد الحاج مالك سه (1855_1922) . أحد أقطاب الطريقة التيجانية في السنغال، وقد كان منتبها لخطورة التعصب الطائفي الذي كان يهدد وحدة الأمة ويدفع كل طريقة إلى احتقار من لم يسلك في طريقته، فحاول سد باب التعصب بتأكيد صلاحية جميع الطرق الصوفية الحقيقية ، وأهليتها لتوصيل سالكيها إلى المولى عز وجل.
والشيخ إبراهيم أنياس الذي كانت له مكانة علمية بارزة في العالم الإسلامي، فقد كان محل التكريم والعناية في جميع الدول الإسلامية، وقد زار البلاد الإسلامية كلها ، كما زار المجتمعات الإسلامية في الدول الأخرى، وقابل علماء عصره وأفادهم وأستفاد منهم، وكانت له صلات قوية بمشايخ الأزهر الشريف أمثال الشيخ محمود شلتوت ، والشيخ الدكتور عبد الحليم محمود من شيوخ الأزهر الشريف ،وقد كرمه علماء الأزهر بأن منحوه رئاسة الأزهر الشرفية لغزارة علمه في الجامع الأشهر ، وكان ذلك في العام . 21_ 7 _ 1961 وهو أول إفريقي يؤم المسلمين في صلاة الجمعة في الأزهر . وبعد صلاة الجمعة علق الشيخ محمد الغزالي على خطبته قائلا( أننا مطمئنون على مستقبل العالم الإسلامي ما دام في المسلمين أمثال ضيفنا العظيم شيخ الإسلام إبراهيم أنياس).
وخاض الحاج عمر ونجله من بعده عدة مواجهات ضد قوات الإستعمار الفرنسي ما بين العامي 1857_ 1859. إنتهت بالهزيمة أمام الفرنسيين وتفكيك دولتهم بحلول القرن التاسع عشر. بعدها كان المسلمون قد تعرضوا لعدة هزائم متتالية امام الإستعمار الفرنسي بحكم تفاوت موازين القوى. وفي تلك الظروف قرر إبن أحد شيوخ الطريقة القادرية “مام مور أنت سالي امباكي ” تأسيس مدينة سوف تصبح نواة مجتمع مسلم نموذجي ، ذلك الشخص هو الشيخ أحمد بامبا ومدينته هي طوبى وطريقته تسمى المريدية ، قاد الشيخ المعروف باسم خادم الرسول نضالا سلميا صامدا ضد الإستعمار الفرنسي ما عرضه إلى النقي إلى موريتانيا والغابون وبعدها الإقامة الجبرية أكثر من مرة من طرف المستعمر الفرنسي
و الشيخ أحمد بامبا كان مؤمنا بضرورة التخلص من التبعية الإقتصادية للإسعمار ، وتطوير قدرات المسلمين الإنتاجية لمواجهة الإستعمار الفرنسي والحملات التنصيرية التي تستغل الأوضاع المتدنية للمسلمين.. ووجه مريديه للعمل والإنتاج بدل التعبد والاعتكاف فقط ، وبذلك توفرت للطريقة موارد مالية كبيرة مكنتها من الإفلات من ربقة الإستعمار الفرنسي .وبناء مسجد طوبى الكبير وتحويل طوبى إلى مركز ديني وثقافي واقتصادي كبير .وكما أتاحت لها تقديم الخدمات الإجتماعية الأكثر إحتياجا .
استمر تأثير الصوفية حتى بعد إستقلال السنغال عن فرنسا في العام 1960. وأعتماد البلاد دستور علماني. وأغلب السنغاليون يتبعون إحدى الطرق الصوفية المنتشرة والواسعة في السنغال وغرب أفريقيا منها التيجانية والمريدية واللانينية والقادرية .ويرى البعض إن ذلك منع تفشي وأنتشار الفكر المتشدد في المجتمع في السنغال ويعتبرون الصوفية عاملا مهما و أساسيا في أستقرار البلاد خلال جميع مراحلها السياسية المتنوعة والمختلفة لدورها في مواجهة التطرف والتعصب الديني وقدرتها على الضغط على القوى والأطراف السياسية في البلاد .
و هناك في السنغال كذلك زعيم الطريقة الصوفية التجانية ونقيب الإشراف في السنغال وغرب أفريقيا ، وعضو اللجنة التنفيذية في الرابطة ، سماحة الشريف الشيخ مكي حيدر الإدريسي الحسني، ولد في العام 1956. والده الشريف الشيخ حامد بن الشريف أحمد الإدريسي الحسني . الشريف مكي شخصية بارزة ومهما لها دورها الديني الإسلامي والإجتماعي والسياسي في السنغال والدول الإفريقية والعالم العربي والإسلامي، ويعتبر الشيخ مكي حيدر بكل المقاييس رجل المرحلة في مجال الدعوة والتعليم والثقافة الإسلامية قد تربى في أسرة دينية و على أيدي مشايخ وعلماء إجلاء أبرزهم الشيخ جيرنو بشير تال، ودرس في مختلف علوم القرآن الكريم واللغة العربية والعلوم الأخرى. وبعد هذا المشوار التربوي والديني وهذا التكوين المعرفي والعلمي والإجتماعي القوي ، لم باشر الشريف مكي العمل الدعوي في السنغال فحسب ولكن في فرنسا أيضا حيث أستقر به المقام بأمر من شيخه الوالد الشيخ بشير تال ، وأنفتح على العالم العربي والإسلامي وتوطدت علاقاته مع رجالات الدين و العلم والثقافة ، وكذلك مع توطد علاقاته مع الحكومات الفرنسية والأعيان هناك ، مما سهل من احتكاكه بالمثقفين الفرنسيين و الشعب الفرنسي بشكل عام . وأستطاع أن يجذب المئات من الفرنسيون إلى الإسلام . وكما نشر الشيخ الشريف مكي الإدريسي الإسلام في جميع القارة الأوروبية ، وقام في جولات في أميركا وغيرها من الدول الغربية.
وأستقر في فرنسا عشرين عاما ، ولعب دورا مهما و أساسيا في تلطيف العلاقات بين مسلمي فرنسا والحكومة الفرنسية ، وبين الأئمة ووزارة الداخلية الفرنسية بشكل خاص جدا. وبعدها عاد إلى وطنه الأم السنغال ليكمل دوره السياسي والإجتماعي والدعوي الصوفي الإصلاحي في المجتمع السنغالي والأفريقي عموما.
وواضح أن الصوفية لها تأثيرها القوي على علاقات السنغال مع بعض دول غرب أفريقيا والمغرب الكبير ، وشمال إفريقيا ، فيما يعرف بعنوان الدبلوماسية الروحية ويجب الإشارة إلى أن الحركات الاسلامية والطرق الصوفية لعبت دورا بارزا في انتشار اللغة العربية في السنغال والدول الإفريقية ، برغم ضعف التمويل وقلة الكوادر التعليمية لتعليم وتدريس اللغة العربية في ذلك الوقت ، وإلى جانب كل ذلك يطغى طابع إقتصادي على أنشطة الحركات والطرق الصوفية ، ويعمل مريدو ومؤيدو الطوائف في عدة مشاريع الإنتاج الحيواني والزراعي التي تعرف محليا في الإقتصاد غير المصنف في بلاد يعيش أغلب سكانها في المدن والقرى والمناطق الريفية ، وتجذب مدينة طوبى العاصمة الروحية والدينية للطريقة المريدية ملايين السياح سنويا في داخل وخارج السنغال .