السّنغال أمام الانهيار الأخلاقيّ والهويّة.. !
أبوبكر السنوسي
إنّ عمليّةَ جزِّ هويّة مجتمعٍ من المجتمعاتِ البشريّة من منبتها الأصليّ ، وإخراجِه من ذاتيّتِه الخاصّة ، تتم عبر تحريف حقائقهِ التّاريخيّة ، وغسلِ أدمغةِ فئةِ لها حضورُها الملموس في أوساطٍ علميّة ، ولها ارتباط عضويّ بحياة البشرِ ، كالفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة وغيرها ، وتشكيكِ مناهجهِ التعليميّة والتّربويّة بالمفاهيمِ والفلسفاتِ الوافدةِ التّي تعكسُ بشكلٍ جذريٍّ حضارتَهُ ، ومرجَعِيّتَه الفكريّةِ والعقديّةِ ، وتلك الفلسفاتُ كثيرا ما تنبعُ من آراء شعبيّة لها صبغتُها الذّاتيّة ، تريد بها السيطرة والقمع والاضطهاد ، واعتبارِها إطارًا فكريًّا ، لا ينبغي الخروج عنه .
وهذه العمليّة قامت بها حركة ابتعاثِ تراث اليونان الوثنيّ ، الخالي من المعاني الإنسانيّة والقيم السياسيّة كالطاعة والانصياع ، وذلك عندما رأتْ عجزَ الكيان الكنسيّ في وضعِ نظامٍ مناسبٍ في المجال السياسيّ ، وتقديم رؤى صحيحة ومفاهيم منطقيّة إلى المجتمع في الجانب العقديّ ، وهذا التّراث اليونانيّ أصبح كمرجعٍ لمعظمِ دول الغربِ في سنّ قوانينها ، وتخطيط مناهجِ حياتِها وسياساتِها ، فأدخلها في أرضيّة مضطربةٍ وبشكلٍ غريبٍ …
وأمام موجة الحركة التّي تدعو إلى الحداثةِ والتنويرِ داخل المجتمع الغربيّ ، بسبب الحقبة التاريخيّة الدامسة التّي رافقتْ حياتَها ، شاهدت بعثاتٍ علميّةً مكثفة من شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا ، اهتمتْ بعد الوصول بتلك الأفكارِ والاتجاهات التّي لها طابعُها الحداثيّ وفكْرُها الغنوصيّ والبروتستانيّ اللوثري ، الذي حاول تهويد المسيحيّة، ومعظم تلك الأفكار من فُتاتِ التراث اليونانيّ الوثنيّ ، وساعدتْ الترجمة وصولَها إلى مختلف الأوساط …
وهذه البعثاتُ العلميّة اسْتُخدمتْ كأداةٍ في معظم تلك الدول لتغيير مناهجها التّعليميّة والتّربويّة ، وتقاليدِ سكّانِها ، عن طريق الدراساتِ المكثفة والشعارات البرّاقةِ والإعلام ، أدّى إلى ظهور نموذج حياتيّ غربيّ عجيب ، فنتجتْ بسببه أزماتٌ أخلاقيّة تتمثل في حدوث عمليّاتٍ انتحاريّة ، والتنمّر على ونهب ممتلكاتِ الناس الخاصّةِ والاعتداء الجنسيّ المتكرر ، والقتل بشكلٍ مستمرّ داخل تلك المجتمعاتِ …
والمجتمع السنغاليّ من ضمن تلك المجتمعات التّي أصبحتْ مرعًا خصبا للاتجاهات الماديّة الغربيّة ، القابعةِ تحت الفكر اليونانيّ الوثنيّ القديمِ ، الذي انتزع من الرّوح قيمَها ، واعتبر المادة أساسَ التّقدّم ، وأنّ الإيمان برُوحيّةِ الطبيعةِ سببُ التأخّرِ والانهيارِ …
والواقع السّنغاليّ وما فيه من الابتزازاتِ السياسيّة والأخلاقيّة والأمنيّة ، ، والاهتزازاتِ العقديّة المذهلة تجعل مجموعةٍ من الأفراد الذين ليس لهم وعيٌ سياسيّ حصيفٌ ، تشبع جانبِها المادّي دون التفكير بالمصير والواقع المرير ، وهي أمور جاءتْ جرّاء عمليّة جزّ الهوية التّي تمت عبْر التشكيك في مناهجها التّعليميّة والتّربويّة ، فأدّتْ تلك العمليّة البشعة ببعض الافراد الى الإيمان بالمادة والانتحار عليها ، وخيانة أحلامهم لأجلها ، وقد عزّزتْ هذا المنحى داخل المجتمع السّنغاليّ المسرحيّاتُ الشّعبيّة التي عكّستْ مسارَها التاريخيّ بوسائل الإغراء الماديّ والدّعم الخارجيّ ، والمسلساتُ التّي تقدم الواقع بشكلٍ مزيّفٍ يعكِسُ تاريخَنا وقيمنا الأخلاقيّة ، ولم يعد للمؤسسات الدّينيّة أي دورٌ فعّالٌ في تبنّي منهج آخر أكثر واقعيّة وفعالية للتصديّ أمام هذه التحدياتِ ، رغم ما لديها من قوّةٍ وحصانةٍ روحيّة وشعبيّةٍ ، والنظرياتُ التّي يؤمن بها روّادُها وما لها من صبغةٍ موضوعيّة ، باتت تلامسُ المفاهيمَ ذات صبغة ذاتيّة ، أدّى كلّ ذلك إلى عرقلة مسيرة البحث العلميّ ، والبعد عن الفكر المنطقي السّليمِ …
وأصبح الشأن العام والقضايا المصيريّة ، يُتناولُ في وسطها الإعلاميّ والثقافيّ دون أن تكون هناك جدّيّة ، وكلّ فكرٍ يدعو إلى الاستقلال الفكريّ والدّينيّ يُبْعدُ عن الوجود بخدشِ مشاعرِه وتراثه وثقافتِهِ ، مما يفرض على الفئة المستنيرة القبوع في الزاوية دون المشاركة في أي نشاطٍ يهدفُ إلى التغيير والعودةِ إلى الهويّةِ الوطنية التاريخيّةِ .
ماشاء الله!
أيدك الله ونصرك, أيها الكاتب اللامع. دراسة عصرية وقيمة.