actualite

الحوار…. البعد الأخلاقي للخلافات

بروفيسور عبد العزيز كيبي

في بلدنا الذي نفتخر بشعاره الذي يشكل تراثًا وحلمًا في الوقت نفسه وهو: (شعب واحد، هدف واحد، عقيدة واحدة) قد نجد أنفسنا وكأننا ضللنا الطريق الموصل إلى الغايات المنشودة، وتعرضنا لخطر التشتت والتفرق. مع العلم بأنه لا يمكننا الوصول إلى ما نصبو إليه إلا إذا بقينا متحدين ومتمسكين بقيم الأخوة والاحترام المتبادل، في ظل التنوع. فهذا مطلب ضروري يستند إلى قدرتنا على التحمل والتضامن ومؤازرة بعضنا البعض في مواجهة التحديات من أجل النهوض والتقدم ومواصلة المسيرة ككيان وشعب واحد.
في هذه اللحظات الحرجة التي نمر بها حالياً حيث تتغذى عواطفنا على سلوكيات يعكسها نفاذ الصبر وعدم التسامح والإحباط وخيبة الأمل، وحيث يتلاعب بعض الأشخاص بعقولنا ويؤثرون فيها، عبر منصات ومواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية، تلوح في الأفق مخاطر الانقسام والمواجهة غير الضرورية التي يكون الخاسر الوحيد فيها الشعب الذي نناضل باسمه ولأجله.
إزاء هذه الظروف، لا يوجد أمامنا حل معقول سوى الحوار من أجل تبديد الخلافات وسوء التفاهم والوصول معًا إلى توافق واضح يؤدي إلى تحقيق الهدف المرجو. وعلى هذا الطريق، يمكن أن نسير بشكل منفصل لكن دون أن نكون منقسمين إلى فصائل تخوض معركة مميتة ( مرتال كومبا) يشكل آلاف الأطفال من أبناء الشعب الجنود المجندين لكلا الطرفين على كامل الاستعداد للموت دفاعاً عن قيصر. والموت هنا، مع الأسف الشديد، لا ينبغي أن نخدع أنفسنا، لا يعني مقتل قائد المعسكر المعادي بقدر ما يعني خسارة الشعب. ويكفي لإقامة الدليل على ذلك أن نلقِي نظرة فاحصة حولنا لنرى ما آلت إليها البلدان المجاورة التي خاضت معركة مميتة ( مرتال كومبا). كما نلاحظ جميعاً، فإن كافة دول الجوار التي استخدمت العنف والتخريب لتغيير أنظمتها ما زالت في خضم المشاكل ودوامة عدم الاستقرار والأمن، على الرغم من الشعارات البراقة المستعملة لحشد الجماهير.
واجب الوفاء للتراث
كيف يمكن للمرء رفض حوار يجري بين إخوة وأخوات وبنين وبنات ينتمون جميعاً إلى نفس الشعب؟ فلنقل بكل وضوح إن رفض الحوار يعني اختيار المواجهة العنيفة كما يعني اختيار الأعمال الوحشية بل هو اختيار يعني الابتعاد عن الاحتكام إلى العقل وإلى التراث والتاريخ ورفض الامتثال لأوامر الله، إنه اختيار يعني بالحرف الواحد الابتعاد عن مصالح الشعب الذي باسمه نتحدث.
كيف يمكن رفض الحوار جملةً وتفصيلاً، مع العلم بأنه لو اخترنا المواجهة العنيفة، فسنكون مضطرين في نهاية الأمر إلى اللجوء إلى الحوار لتصفيتها؟ كيف يمكن رفض الحوار، مع العلم بأن الله تعالى نفسه قد تحاور مع ملائكته عندما تعلق الأمر بخلق بشر من طين؟ فكأنه تبارك وتعالى أراد من خلال هذه التجربة السماوية أن يعلمنا، نحن البشر باعتبارنا مخلوقات متواضعة، عاجزة وجاهلة بأنه حتى إذا أصبحنا نمتلك كل القوة الممكنة (وهو سبحانه القادر على كل شيء) فعلينا أن ندرك أن من المفيد إجراء الحوار مع الآخرين سيما عندما نواجه أوضاعاً خطيرة.
وكيف يمكن للمؤمن الذي يدعي إحياء القيم الدينية أن يرفض الحوار، رغم كل التوجيهات القرآنية المتعلقة بهذا الأمر؟ منها على سبيل المثال الآية التي ورد ت في سياق السلام: ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) حيث تتضمن هذه الآية وسيلة كفيلة لكبح جماح المتحمسين للمواجهة تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا دائمًا جاهزين كما تذكرهم بأن عليهم أيضاً لا يجهلوا أن هدف المواجهة هو في الحقيقة خلق جو صالح لتحقيق السلام. وعليه، فإن معنى الآية هو أنه إذا مال الأعداء نحو السلم فيلزم عليكم أنتم المؤمنين أن تميلوا إليه.
كيف يمكننا رفض صوت السلام إذا كان قلوبنا تنبض بحب السنغال؟ كيف يمكننا رفض صوت السلام إذا كانت السنغال فوق الجميع، كما كان يقول الشيخ عبد العزيز الأمين، رضي الله عنه، لشدة تعلقه بالوطن ولكونه صدى صرخة سميه (الحاج عبد العزيز الدباغ بن سيدي الحاج مالك). كيف يمكن رفض الحوار الذي هو جزء من إرثنا وتركة تاريخ خلفها آباؤنا المؤسسون لأمتنا العزيزة؟
ابتداء من سنغور ومروراً بعبدو جوف وانتهاءً بعبد الله واد، لم يغفل واحد من قادتنا قط هشاشة الديمقراطية السنغالية والمخاطر التي قد تنجم عن إلقاء وطننا العزيز في هاوية الفتنة والتخريب. إنهم كانوا قادة متميزين يدركون تماماً أن روح البطولة لا يكتسب من خلال التعنت وتشجيع الانقسامات والكراهية. إنهم كانوا قادرين على تجاوز الخلافات حتى مع المتطرفين من أتباعهم، للإصغاء إلى صوت التراث وانتهاج طريق الحوار. وكذلك الحال بالنسبة لزعمائنا الروحيين الذين كانوا في الوقت نفسه أصحاب مبادرات وأطرافاً في الحوار، بدءً من الشيخ محمد الفاضل امباكي، المشهور بـ (سيرينج فالو) ووصولاً إلى الشيخ التجان سي المكتوم، والشيخ عبد العزيز سي الدباغ وسميه الشيخ عبد العزيز الأمين أسكنهم الله جميعاً فسيح جناته! في عهد هؤلاء كان الوضع في السنغال أصعب بالنظر للسياق العام، وكانت العقول أكثر اندفاعاً والتنافس محتدماً في بيئة أكثر تعقيداً، ومع ذلك ظل هؤلاء القادة واعين بأن ثمة خطوطاً حمراء ينبغي عدم تجاوزها، وإن كان لا يراها الانسان العادي ورجل الشارع الذي يرى اللون الأخضر في كل مكان. هذا هو روح المسؤولية الذي كانوا يتحلون به. وهذه ميزة القائد الحقيقي الذي يدرك أنه ليس زعيم عصابة، بل هو مشرف ودليل ينير الرأي العام ويوجهه نحو الخيارات الضرورية، وإن كانت صعب التحقيق. لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم نفس الحالة في صلح الحديبية حيث كان مضطرا للتخلي عن خيار المواجهة، وتقديم بعض التنازلات التي بدت للوهلة الأولى أنها ليست في صالحه، مخالفاً بذلك آراء المسلمين الذين كانوا معه. كل منا يعرف النتيجة التي أفضت إليها هذه التنازلات، أعني الانتصار الذي حققه فيما بعد.

الحوار هو البعد الأخلاقي للخلاف

الحوار هو البعد الأخلاقي للخلاف، لأنه يفتح باب الاعتراف بوجود مسار آخر غير العنف كفيل لحل النزاعات والوصول إلى توافقات. وهو أدركه القادة المذكورين سالفاً وطبقوه ابتداءً من سنغور ووصولاً إلى عبد الله واد حتى سمحوا لبلادنا القيام بقفزات نوعية في أوقات الأزمات السياسية والاجتماعية تمثلت في فتح باب الديمقراطية على مصراعيه في عهد سنغور، واعتماد القانون الانتخابي التوافقي في عام 1992 ، مما ساهم في تحقيق التناوب السلمي على السلطة في عام 2000.

وهذه الأخلاق العالية في التعامل مع الخصم تجعل المؤمن مضطراً إلى قبول الحوار كلما دعي إليه، واثقاً بالله ومتوكلا عليه، حتى إذا كان يشك في صدق البعض، كما تشير إلى ذلك الآيات 61 إلى 63 من سورة الأنفال.
قد يتساءل أحد منا عن أهمية التركيز على البعد الأخلاقي في الحوار. نحن نرى أن من الأهمية بمكان الاصرار عليه لأن رفض الحوار يعني نفي حق الطرف الآخر في الوجود، وإثبات ذاتنا فقط، بل هو يعني تدمير الطرف الآخر. أما اختيار الحوار وقبوله، فيعني الاعتراف بحق الآخر في الوجود إلى جانب حقنا في الوجود، كما يعني أيضاً التزام كلا الطرفين بالعمل معاً من أجل وضع شروط التعامل في المجال السياسي، والتشارك في مساحات الحياة الأخرى، لغرض تحقيق هدف واحد فقط، وهو ارتقاء بلادنا وتقدمها بعيداً عن نزعات الأنا نية والفردية.
في الواقع، مع توظيف البعد الأخلاقي للخلافات ضمن عملية الحوار، لا يكون ثمة لا فائز ولا خاسر، بل مسؤوليات معترفة تحملها الأطراف المشاركة تكفل التعايش السلمي بينهم. وهذا يتطلب التزاما برفض العنف وقبول العمل المشترك المؤدي إلى بناء مستقبل مشترك، حيث يجد كل شخص مكانه ويساهم في رفعة بلدنا وتقدمه. قد سبق في الأزمنة الماضية أن سادت هذه الأخلاقيات في وطننا العزيز. وهذه حقيقة وليست أسطورة تحكى. ولماذا لا تتحقق مجدداً مع الأطراف المعنية في الوقت الراهن؟ إن ذلك يتطلب من جميعهم التحلي بروح المسؤولية والذكاء .
أما رفض الحوار، فماذا يعني؟ إنه يعني قبول العنف والتهميش ونفي وجود الطرف الآخر. إنه يعني اختيار الصراع والدمار بدلاً من التعايش السلمي والتعاون البناء.
فلنقل نعم للحوار! نعم لأخلاقيات الخلافات! نعم لتحقيق حل سلمي للصراعات وبناء مستقبل مشترك لشعبنا.

      وزير مستشار لرئيس الجمهورية مكلف بالشؤون الدينية
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى