actualite

التنمر…الظاهرة القديمة المتحورة

د/عمران عبد العزيز

تعتبر ظاهرة التنمر من أخطر الافاة الاجتماعية التي تستهدف ملاين الأطفال عبر العالم بما تسببه من معاناة نفسية وجسدية
وهي ظاهرة قد تم إهمالها او تجاهلها او التقليل من شأنها ،مما استدعى دق ناقوس الخطر من طرف الهيئات العالمية وعلى رأسهم منظمة اليونسكو التي خصصت منذ 2019 يوما عالميا لمكافحة هذه الظاهرة والذي يوافق الخميس الأول من كل شهر نوفمبر، ونحن على أبواب السنة الثانية للتذكير بهذه المناسبة ارتأيت الخوض في هذه المسألة قصد التعريف بها ومحاولة تنويرالراى العام بطرق الوقاية والعلاج منها ،خاصة أنها تمس فئة عريضة من الأطفال والمراهقين، فالإحصائيات الاخيرة تأكد تصاعد وتيرتها وتبين أن هناك واحد من كل ثلاثة طلاب يتعرضون لهذه الهجمة مرة واحدة على الأقل شهريا ،وواحد من كل عشرة اطفال يكونون ضحية التنمر الإلكتروني.
يعرف التنمر بالاعتداء المتكرر لفضيا او جسديا يقوم به فرد او مجموعة من الافراد الأقوياء بدنيا على العموم ،ضد فرد ضعيف جسميا او نفسيا ،ويدخل في هذا النطاق التنمر الجنسي بما في ذلك من النكات والتعليقات أو الإساءات الجنسية العدوانية. ويعتبر التنمر الجسدي اكثر شيوعا عند الأولاد ،.عكس الإساءة النفسية التي تعتبر اكثر شيوعا عند الفتيات اذ يتعرضن للإقصاء والرفض والتجاهل والاهانات ونشر الشائعات واختلاق الأكاذيب والشتائم والسخرية بالإضافة إلى الإذلال والتهديد ، وكل ذلك ينتج عنه أثار سلبية تهدد المستوى العام للتحصيل الدراسي. وتعد احتمالات شعور الطلاب المعرضين للتنمر بأنهم منبوذين في المدرسة ثلاثة أضعاف احتمال شعور غيرهم من الطلاب بذلك ،كما تبلغ احتمالات غياب ضحايا التنمر عن المدرسة أضعاف احتمالات غياب سائر التلاميذ عنها ،هذا ويحرز ضحايا التنمر نتائج دراسية اسوأ من النتائج التي يحرزها أقرانهم ،ويعتبرون أكثر عرضة للانقطاع عن التعليم النظامي بعد إتمام مرحلة التعليم الثانوي ،وما يجر عنه من اضطرابات نفسية وعقلية قد تصاحبهم طيلة حياتهم ،وما قد ينتج عن ذلك من تداعيات اجتماعية وخيمة….
ولتحليل هذه الآفة استوجب علينا تفكيك أطرافها المتكونة من الطفل المتنمر والطفل الضحية والبيئة الحاضنة من مدرسة وأسرة ومجتمع . فالطفل العنيف هو شخص مضطرب نفسيا وعادة ما يكون من أصحاب النتائج الضعيفة مدرسيا او ممن يكررون الصف ما يزيده قوة في الجسم ،وغالبا ما يكون صاحب هذا التصرف منحدرا من عائلة هشة تفتقد مقومات التربية والأخلاق
الحسنة ،وكثيرا ما يسودها العنف الأسري المتبادل…وبالتالي فهو بدوره ضحية الأسرة والمجتمع. أما الطفل الضحية فهو ذلك التلميذ او المراهق الذي يسمح بتكرار هذه الظاهرة دون البوح بها ،سواءا بالتستر او التجاهل عند غياب الأذان الصاغية على مستوى الأسرة والمدرسة، وهنا يتضح دور الجميع بدا بالوقاية قبل العلاج .
دور الأولياء مهم في توعية الأبناء بمخاطبتهم المباشرة وتعريفهم بالطرق المختلفة للتنمر وآثاره السيئة نفسيا وجسديا بعد محاولة الوقاية المبكرة بالاندماج الممنهج مع مجموعات واسعة من الأطفال ك ٌل حسب مستواه العمري مثل الكتاتيب ودور الثقافة والفنون وكذا نوادي الرياضة والكشافة…مما يضاعف من فرص احتكاكهم بشرائح واسعة من المجتمع وما ينتج عن ذلك من تعزيز ثقتهم بأنفسهم وصقل مهاراتهم المكتسبة وتجنب الاعتزال والانطواء ،وفي هذا الصدد يستوقفني قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) وكذا تعليمهم وجوب الدفاع عن بعضهم البعض وقت اللزوم ،فالأطفال تميل للدفاع عن طفل آخر أكثر من ميلهم للدفاع عن أنفسهم ،وحين يقومون بذلك يصبحون أكثر ثقة في قدراتهم على الدفاع عن أنفسهم عند الحاجة إلى ذلك. دور الأولياء لا ينحصر في التوعية والوقاية ولكنه جوهري في العلاج المبكر لهذه الظاهرة عند حدوثها وذلك بالاستماع والإنصات لتظلم الطفل أو الطفلة وطمئنتهم بمدى شيوع هذه الآفة بين قرنائهم في المدارس ،والتوضيح لهم بأن ذلك الطفل العنيف ليس هو إلا ضحية غيره ،وأنه طفل مسكين ( بلغة الأطفال ) وجب علينا الاشفاق عليه والتعاطف معه …واخبارهم بأنه يعاني من اضطرابات سلوكية معقدة، وبذلك فهو الأضعف في حلقة الأطفال المتمدرسين.
دور الأولياء لا يجب أن يتوقف في هذه المرحلة فحسب ، فالخطوة القادمة تشمل وجوبا الأطراف المتبقية ، بدا بالطفل المتنمر في إمكانية مخاطبته بقلب الطبيب المشفق والولي العطوف ،وكذا محاولة ارشاده إلى ضرورة ترك هذا الدور(البطولي) والاهتمام بالدراسة لبناء مستقبله الواعد ، وقد تكون هذه الخطوة ثمرة الاتصال بأوليائه مباشرة اوعن طريق المؤسسة التربوية ، والتي يبقى دورها محوريا في رصد هذه الظاهرة والوقاية منها بشتى الطرق ،من نشاطات رياضية ولقاءات ثقافية متنوعة مثل المسرح الذي يعتبر وسيلة تربوية هامة للتعريف بهذه الآفة وغيرها وإبراز نتائجها السلبية على الفرد والمجتمع ،دون أن ننسى دور الإعلام المدرسي الهادف باستعمال الطرق المتعددة مثل الملصقات والقصاصات وشتى وسائل التواصل
د . عمران عبد العزيز
الاجتماعي….وفي هذا السياق يأتي دور المرشد النفسي والاجتماعي داخل كل مدرسة لأهميته في الوقاية والعلاج الممنهج من الأثار السلبية لهذه الظاهرة ،بعد أن يكون قد استوفى جميع التكوينات العلمية والميدانية ،مما يجعله مؤهلا للاطلاع بهذا الدور الحساس .
ولحماية الأطفال من هذه الآفة على الأولياء التثقف وقراءة كل ما يتعلق بها ،ومعرفة طرق التعامل معها ،كما يجب عليهم احترام أبناءهم وان يعلموهم بأنهم يستحقون التقدير ،فمن يتعلم انه من المقبول إهانته وضربه والسخرية منه داخل المنزل ،سيكون أكثر ميلا لتقبل ذلك من الآخرين. وأفضل أسلوب لمنع التنمر هو تعليم الطفل وتدريبه للتعامل مع هذه التحريضات وعدم التأثر بها ومن تلك الطرق ما أوصى به المختصون بعدم الرد على الإساءة اللفضية بإهانة مماثلة ،وضرورة الدفاع عن النفس عند الإساءة الجسدية ،مع إمكانية طلب المساعدة من شخص آخر وعدم التردد في تبليغ الأولياء او المدرسة.
ويعتبر التنمر ظاهرة قديمة المنشأ جديدة الأساليب خاصة مع الانتشار الواسع للانترنت ،وما ترتب عنه بما يسمى بالتنمر الإلكتروني وعواقبه النفسية الوخيمة والتي عرفت تزايدا رهيبا في الوتيرة مؤخرا ،وصولا إلى درجة الانتحار الذي تفشى في أوساط الأطفال والمراهقين عبر ربوع المعمورة ،مما يستدعي تكاتف الجهود السياسية بإصدار ترسانة جديدة من القوانين الوقائية والتشريعات الردعية ،مع حتمية استعمال الوسائل الحديثة في ترصد هذه الظاهرة والوقاية منها ومعالجتها بشتى الطرق ،مثل تعميم مشروع كاميرات المراقبة أمام ساحات المدارس والأحياء الشعبية ، و ضرورة تبليغ المصالح الأمنية المختصة في مكافحة الجريمة الإلكترونية عند حدوثها ،وكذا إعطاء أهمية قصوى لتوعية المجتمع باستضافة المختصين عبر وسائل الإعلام المحلية من اذاعة وتلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي ، مع وجوب إقحام المساجد في هذا الدور النبيل .
ولدراسة هذه الظاهرة بطريقة علمية سوف أقوم ببحث منهجي ميداني معمق يشمل جميع أطوار المدارس بمدينتي ،تحت إشراف الشركاء المعنيون ،وسيكون هذا العمل موضوع المقال القادم إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى