Articles

مقال: وماذا عن البقايا الصالحة..؟!

بقلم: فاضل المأمون

مررتُ به، كانَ جالساً عند باب دُكَّانِه الذي بالكادِ ترَى زبوناً يحتاجُ فيه شيْئاً، زيَّن أرصفتَه بأندَر الكُتب في البلد، من “جواهر الإكليل” و”مقامات الحرِيري” و”الدروس الأولية”، من ينظرُ إليها يعتقدُ أنَّه يَعرضُ صفوةَ مقرّراته الدراسية للبيع، ربَّما لأنّه ليس من أهلِه من يقدرُ على قراءة حرفٍ واحدٍ في ثنايا هذه الكتبِ،فضلاً عن وجود من يجدرُ على وراثة هذه الدرّة من الكُتب النادرة المهمّة، وجنبَ الكُتب أدواتٌ مدرسيةٌ للبيعِ، عُلِّقَت على أحد الأرصفة شهادة قديمة، صادرة من جمهورية مصر العربية، تحيط بها أكاليل الغُبار، وبقايا مياه المطر. وأخرى ترجمةٌ له إلى الفرنسيةِ، بدَا لي الشيخُ واحدًا من البقايا الصالحة في هذه المدينة، رُحتُ أتبادلُ معهُ أطراف الحديث، علِّي أجدُ منه نصيحةً أو دعاءً أو خبرةً، عرَّفتُ له شخصيتي، “أستاذٌ في ثانوية المدينة”، فرِح بسماعِ هذه الكلمةِ، وكأنَّهُ التحقَ بزميلِه العسكريِّ المحكوم عليه بالموت بعد عشراتِ سنين، بدأَ يسرُدُ لي مراحلَ دراستِه، من تلقِّيه لكتابِ “مقامات الحريري” في بداية سبعينيات، وحصُوله على منحة دراسيَّة إلى جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، “رحلتُ إلى القاهرة عامَ 1980″، صرَّح لي ذلكَ، انتابني بعض الذهول، رُحتُ أعدُّ السنوات التي كانت قد بقيتْ لي لأصل إلى هذه الكوكبة، فشلتْ أصابعي في حصرها، استمرَّ الشيخُ في سرد كلامها، كمن يشرح لي قصَّةً بُطولية لجندي شجاعٍ: “درستُ ثلاث سنواتٍ في القاهرة لأحصلَ على الشهادة الثانوية، ثمَّ أربع سنواتٍ أخرى للحصولِ على إجازة اللسانس في كلية أصولِ الدين، قسم العقيدة والفلسفة، ثمَّ رجعتُ إلى بلدِي عام 1987م” ما يعني خمس سنواتٍ قبل ميلادي، في هذه المرّة نجحتُ في حساب الفارق بين عام البطولة وعلى ولادتِي، بدا الشيخ كمن شعرَ أنَّه سلبَ بعضاً من حقّي في الحديث، طرحَ عليَّ سؤالاً: “أين تخرجْتَ؟” ، أجبتُه “في طرابُلس- ليبِـيَا، حاصلٌ على إجازة الماجستير في النقد والأدب”، أخذتُ أمجِّدُ بطولاتهِ المبكِّرة، وإنجازاتِه القيِّمة، بدأَ يوجِّه إليَّ نصائح غالية إزاء مساري المهني والعلمي، وأسبلَ عليَّ وابلاً من الأدعية بالتوفيق والنجاح، ووضَّح لي كيف كان الرئيس سنغور وقتَئذٍ ضدَّ أي حركة في سبيل التثقُّف بالدين واللغة العربية، وكيف كان الرئيس عبد جُوف يهمِّش حاصلي الشهادات باللغة العربية، وأنَّ علينا تكريس أقصى جُهدنا في سبيل خدمة اللغة التي لا يتصوَّر قراءة القرآن إلاَّ بهِا، وإرشاد الناسِ إلى الطريق الحقِّ.
أدركتُ حينَها أنَّ جِيلنا إذا وجدوا حظّا أحسن من حظ جيل هذا الشيخ فلأنَّهم قد بذلوا كلَّ مجهوداتهم، وضَحَّوا بمستقبلهم، لأجل قضيَّةٍ طالماَ حاربها ألدُّ أعداء الإسلام، انطلاقاً من المستعمرين الذين حرَّقوا الجامعات الإسلامية وأقفلُوا المدارس العربية إلى الرؤساء السنغاليين الذين حاولُوا دفنَ البقية الباقية من هذه الجِينة، أدركتُ أنَّ وضع اللغة العربية في السنغال قد تحسَّن بكثيرٍ إذا ما قورنَ بجيل هذا الشيخ، وإن بقيَ ثمة الكثيرُ الكثير ممَّا سُلب من حقِّه، وأنَّه لا يمكنُ بالمرّة إعادة حقِّها الكاملة ومكانتها المرموقة إلاَّ بأيدي ناطقيها، والمثقفين بها، بيد أنَّ الملاحَظ هو أن شرذمةً غيرَ قليلة منهم باتُوا يخجلُون أو يندمُون على تعلِّمهم للغة القرآن والعلم والفنّ، بينما نجدُ في أقصى قريةٍ من جنوب السنغال مواطنًا كرَّس حياته في تعلّم اللغة الألمانية -أو الروسية أو الإيطالية- التي بالكاد يتعثَّر على من يتحدَّث بها معه داخل البلد، ويستخدمها بكل فخر وشرفٍ، في حين أنَّهُ يشعُر بالخجل ذاك الشخص الذي أتقنَ تلك اللغة التي لن تُعرف حلاوةُ تلاوة القرآن وجمال معانيه إلاّ بها، ولن يجد المسلمُ أحكام دينهِ تفسيراً وعقيدة وفقهاً إلاَّ من خلالها، إضافةً إلى كلّ ذلك أنّها لغة فنّ وجمالٍ، وشعرٍ وفكرٍ، والأهمُّ من كلّ ذلك أنها هي اللغة التي نستطيع أن نتواصلَ بها مع العلماء القدماء للبلدِ من الشيخ أحمد الفوتي تال، والشيخ أحمد بامبا، والحاج مالك سهِ والشيخ عبد الله نياس، ومن على شاكلتهم، هؤلاء الذين لأجلهم نستطيعُ أن نفتخر بكلِّ شموخٍ أنَّ شعبنا عرفَ الثفافة والكتابةَ والإبداع والفنَّ قبل وصول الاستعمارِ الغاشم الذي باتَ يكرِّس كل طاقتِه لإثبات أنَّ القوميةَ الإفريقية قوميةٌ أمية وحشيةٌ بعيدة عن الثقافة والكتابة فضلاً عن الفنّ والإبداعِ، هادفِين في ذلك أن يرسِّخُوا ثقافتهم المليء بالفجور والفحش في عقليةِ هذا الشعب المسكينِ المظلوم، ويحاولُوا تهميشَ وإحباطَ عزيمة تلك البقية الصالحة التي لا تزالُ تكذِّبُ ادِّعاءاتهم التافهة بأدلة علمية ملموسة. ويطفئُوا نور الله الذي كرَّس علماءنا وأجدادنا في ترسيخ مبادئه القيِّمة “واللّه متمُّ نورِه ولو كرهَ الكافرون”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى