
معاوية .. بين إطراء المغالين وطعن الحاقدين
كتب – د. محمد علواني سليمان
لله در القائل:
يا من جعلتم رسول الله قدوتكم هذا هو المجد فامتازوا عن الأمم
سووا الصفوف وصونوا سر نهضتكم واستجمعوا الأمر قبل اللوم والندم
نعم، فوحدة هذه الامة هو اهم ما يميزها، وهو سر قوتها، والعامل الأعظم لاستمرارية وجودها وحيويتها، وأصل أصيل من أصول دينها، ومقصد عظيم من مقاصد شرعة ربها، وفريضة جماعية فرضها الله عليها، فشرع لها بذلك ما يوجدها ويوجبها ويزكِّيها، وحدَّد لها ما يقويها، وبيَّن لها ما يتعهَّدها وينمِّيها، وحرَّم كل شيء يأتي عليها أو ينقضها أو يوهنها أو يضعفها، أو يعمل على أن تتنكَّب الأمة صراط القوة، وطريق العزة، وسبيل الوحدة، وجعل الوحدة اخت الإيمان، والتفرق اخا الكفر ، وجعلها المعيار الذي يحدد قوة الامة في حاضرها، واعظم عدة تستشرف بها مستقبلها، فقال عز من قائل:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾آل عمران103
وقال: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ)الانفال46
وقال صلى الله عليه وسلم:(مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)رواه البخاري
وقال: (عليكم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفُرقَةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وهو منَ الاثنَينِ أبعَدُ، مَن أراد بحبوحةَ الجنَّةِ فلْيلزَمِ الجماعةَ)رواه الترمذي
ولقد كان ولا يزال تفرق الأمة الداء الأقدر على إهلاكها، والهدف الأسمى لاعدائها، والتاريخ يشهد بذلك، ولو تتبعنا أسباب سقوط دول الخلافة فسنجد في مقدمتها تفرقها وتمزقها، وتحولها في نهاية عهدها إلى قوى متناحرة أنساها الشيطان غايتها ورسالتها، وأغفلها عن كيد أعدائها لها وتربصهم بها.
أقول هذا وأنا في معرض الحديث عما نشب من خلاف بين الصحب الكرام، أسيادنا وتيجان رؤوسنا، سيدنا “علي” -رضي الله عنه- وسيدنا “معاوية” -رضي الله عنه- ذلكم الحدث الأليم، والبلاء العظيم، الذي مُنيت به الأمة، والذي ما زالت آثاره باقية إلى يومنا هذا، حتى أورثنا هذا الخلاف السياسي مذهبا دينيا يتبعه ما يقارب الخُمس من أبناء أمتنا.
ودائما ما يدور السجال بينه وبين مخالفيه حول نظرته لبعض الصحب الكرام، ومنزلتهم التي يراها لهم، وفي مقدمتهم “معاوية”؛ وما بدر منه ومن أتباعه “زمن الفتنة” في حق “علي وآل البيت”.. وبين أصحاب المذهبين” الشيعي والسني” دائما ما تدور المعارك في هذا الشأن، يعمل على بقاء جذوتها دائما مشتعلة أعداء الأمة من الكافرين، ويزكيها المنافقون، حماية لمصالحهم، وتحقيقا لمطامعهم.
والحق الذي نريد أن نلفت إليه نظر المسلمين جميعا -شيعتهم وسنتهم- في حديثنا هذا ألا ننسى عند الخوض فيما نشب بين الصحب الكرام من خلاف منزلتهم التي ارتضاها الله ورسوله لهم، حتى لا نتهمهم في نياتهم، فلن نكون أعرف بحالهم من الذي خلقهم، فنؤمن إيمانا لا جدال فيه، ولا شك معه، ونعتقد عقيدة أثبت من الرواسي، وأعمق من خفايا الضمائر، بأنهم رضوان الله عليهم جميعا طلاب للحق وإن أخطأوه، ومن المستحيل أن يكونوا طلابا للباطل، وأنهم متى عرفوا الحق رجعوا إليه، وأنهم بشر يُصيبون ويُخطؤون ، ولكنهم فرسان التوبة، وأهل الاستغفار، هذا ما يجب أن يستقر في وجداننا، وهذا ما سيعيننا كثيرا على فهم الأحداث التي نشبت بينهم، أو تلك التي كانوا طرفا فيها..
أُنظر إلى ما يقوله “عبد الله بن مسعود” في شأن الصحب الكرام: (من كان مُستنا فليَستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -ﷺ – كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).. رواه شعيب الأرناؤوط.
ويقول أيضا: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد -ﷺ- خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد -ﷺ- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سييء). رواه أحمد.
ومن هؤلاء الصحب الكرام “معاوية”، الذي ثبت بالتواتر أن أمَّره النبيُّ-صلى الله عليه وسلم- أمَّره كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في كتابة الوحي، وولاَّه” عمر بن الخطاب” الذي كان مِن أخبر الناس بالرِّجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته، وشهد له “عبد الله بن عباس” بالفقه، وشهد له كبار علماء أهل السُّنة بالفضل والعدل.
يقول “ابن كثير”-رحمه الله تعالى- في كتابه: البداية والنهاية:
“واجتمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو”.
وشهد له” رسول الله” -صلى الله عليه وسلم- بالجنة فقال: (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله: أنا فيهم ؟ قال: أنت فيهم.
ثم قال النبي: أول جيش من أُمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال: لا). أخرجه البخاري.
ومعلوم أن أول جيش غزا البحر هو جيش “معاوية”،
وثبت أن” النبي” -صلى الله وسلم- قال فيه: (اللهم اجعله هاديا؛ مهديا؛ واهده؛ واهد به). رواه الترمذي.
هذا لنعرف للرجل بعض قَدره، ولكن ديننا علمنا أن كل أحد أيا كان يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فلا عصمة لأحد بعد رسول الله، وكل ابن آدم خطاء، وللرجل أخطاؤه كما كل البشر، وخير الخطائين التوابون، ولكنه من فرسان التوبة، ومن الصحب الكرام.
ففي هذا الشأن كان رفضه أن يعطي لأمير المؤمنين “علي” البيعة قبل أن يسلمه قتلة “عثمان” من الخطأ الذي كان فيه مجتهدا إذ كان من أولياء دم “عثمان” -رضي الله عنه- والله أعطى لولي الدم سلطانا فقال عز من قائل: ( وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلْطَٰنًا فَلَا يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا). الإسراء 33.
هكذا كانت رؤيته، ويؤكدها ما ورد عن “أبي مسلم الخولاني” أنه قال لمعاوية: أنت تنازع “عليا” في الخلافة؛ أوَ أنت مثله ؟
قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن “عثمان” قُتل مظلوما، وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه ؟ فأْتُوا “عليا” فقولوا له يدفع لنا قتلة “عثمان”.
فأتوه فكلموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي.
فامتنع “معاوية”، فسار” علي” في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار” معاوية” حتى نزل هناك.. وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا، فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال”.
ولكن كان الواجب عليه ان يدخل في طاعة “أمير المؤمنين” أولا؛ تحقيقا للوحدة ودخولا في الجماعة، ثم يطالب بعد ذلك بحقه ويضع الأمر بيد السلطان يأمر فيه بما فيه مصلحة المسلمين، فديننا دين النظام والجماعة، ولا يجوز للأفراد أن يقيموا الحدود بعيدا عن نظام الدولة، وها نحن قد رأينا ما ترتب على ذلك من فوضى عارمة عمت البلاد ، أضعفتها، وأطمعت فيها أعداءها، وراح ضحيتها الكثير من خيار الأمة، وهذا نتيجة طبيعية للخروج عن الجماعة.
لنتناول الحدث بالدراسة والتحليل كما شئنا، ولكن حذاري أن ننسى أننا نتناول أحداثا دارت بين الصحب الكرام، نتدارس مواقفهم دون التعرض لنياتهم أو الطعن في دينهم.
ولعلنا لو طالعنا كيف كان “علي” -رضي الله عنه- في عين “معاوية” رغم ما كان بينهم وقت “الفتنة” لتأكد لنا أنه -رضي الله عنه- إنما كان يريد الحق الذي اعتقد أنه له، ويقوم بالواجب المفروض عليه تجاه دم “ابن عمه عثمان” والذي كان يعتقد أن “عليا” تقاعس عنه، دون أن يكون له مأرب شخصي في ذلك.
فهذا “ضرار بن ضمرة” الكناني يدخل على “معاوية” ذات يوم، فقال له: صف لي “عليا”.
فقال: أوَ تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بدّ، فإنّه كان والله بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، وكان والله غزير العَبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطّعام ما جشب، كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضّعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي أسمعه الآن وهو يقول: يا ربّنا يا ربّنا، يتضرّع إليه ثم يقول للدّنيا: إليَّ تغرّرت، إليَّ تشوّفت ؟! هيهاتَ هيهات، غرّي غيري قد بنتك -طلّقتُك- ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ.. آهٍ من قلّة الزّاد، وبُعد السّفر، ووحشة الطّريق.
فوكَفت دموع” معاوية” على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان “أبو الحسن” -رحمه الله- كيف وجدك -حزنك- عليه يا ضرار ؟ قال: وجدُ -حزنُ- مَن ذُبح واحدها -ولدها الوحيد- في حجرها، لا ترفأ دمعتها ولا يسكن حزنها”.. ثم قام فخرج.
ويذكر “ابن كثير” في “البداية والنهاية”؛ في إطار حديثه عن “معاوية” موقفا آخر له فيقول: “لم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيّامه في بلاد الرّوم والفرنج وغيرها، فلمّا كان من أمرِه وأمرِ أمير المؤمنين” عليٍّ” ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتحٌ بالكلّية، لا على يديه ولا على يدي عليّ، وطمع في “معاويةَ” “ملكُ الروم”؛ بعد أن كان قد أخسأه وأذلَّه، وقهر جنده ودحاهم، فلمّا رأى “ملك الروم” اشتغال “معاوية” بحرب “عليّ”؛ تدانى إلى بعض البلاد في جنودٍ عظيمةٍ، وطمع فيه.
فكتب إليه” معاوية”: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحنّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنّك من جميع بلادك، ولأضيّقن عليك الأرض بما رحبت. فعند ذلك خاف “ملك الروم” وانكفَّ، وبعث يطلب الهدنة.
وأما “علي”، فإن مواقفه الصحيحة تدل على انه حفظ لمعاوية شرف الصحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واعتبر له اجتهاده ، فبرغم أنه دارت بينه وبين” معاوية” حرب ضارية دامت خمس سنوات، أزهقت فيها أنفس كثير من المسلمين وأهلكت فيها أموالهم، فقد ثبت عنه أنه قال: قتلاي وقتلى معاوية في الجنة”.
وكان “يدعو لأهل الشام بالمغفرة”.. رواه ابن أبي شيبة.
هكذا كان فهمهم لطبيعة الخلاف الذي كان بينهما، خلاف لم يبتغوا من ورائه إلا الحق الذي آمنوا به وإن اخطاه بعضهم، خلاف يعذر فيه كل منهم من يخالفه، خلاف لم يكفر فيه أيهما الآخر، ولم ينتقص فيه أيهما شيئا من فضل الآخر، خلاف يبرز تجردهم للحق الذي آمنوا به -وإن أخطأوه- فضحوا في سبيل إحقاقه بالنفس والمال وكل رخيص وغال، خلاف لم ينس فيه أحدهما للآخر شرف الصحبة، ويا له من شرف، ويا لها من مكانة.
ليتنا اليوم نقتدي بهم، ونعرف لهم قدرهم، ونعصم ألسنتنا من الخوض فيما شجر بينهم، وننتبه لبذور الخلاف التي يلقيها بيننا أعداؤنا بين الحين والآخر تمزيقا لأمتنا، وهدما لوحدتنا، رعاية لمصالحهم، وتحقيقا لمطامعهم، وليتنا جميعا (سُنة وشيعة) نفطن لذلك، نتأدب بأدب الخلاف، وننبذ أسباب الفرقة، ونتعاون على القواسم المشتركة بيننا -وما اكثرها- ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، ساعتها فقط سننهض من جديد، ونعيد لأمتنا مجدها التليد، وتكون لنا السيادة والريادة كما كانت -وهو كائن إن شاء الله بوجود المخلصين بين أبناء الأمة وما ذلك على ا الله بعزيز