قصة : ” نجيب.. يلا”الأمل يا مجيب هو ما يبقينا أحياء “قادري”
بقلم الأستاذ عبد الأحد الكجوري
… لم يستسلم قط لليأس، بل ناضل رغم الموت الذي أحاط به من كل جانب. كان يمشي دون أن يلتفت، يتبع نور الشمس، فارغًا من كل ما يثقله، مليئًا بإيمانه بربه، رغم مصيره الصعب وحياته التي لم تعرف السكون أو الراحة. بروحه الإفريقية التي تربّت على قبول القدر، خيره وشره، كان يردد دائمًا: الله كريم، مهما كان العيش عسيرًا.
كان مؤمنًا بالله حتى النخاع، رغم الصور النمطية التي تلتصق به، تلك التي تروج أن الإنسان الإفريقي أكل القرد فأخذ من طباعه حب الطرب، كما ذكره ابن خلدون.
هنا نتوقف ونسأل: ما جريمة الإنسان الإفريقي حتى تكالب عليه رواة التاريخ؟ أم أنه الحسد؟
لا تظن، أيها القارئ النبيل، أني عنصري أناضل من أجل اللون أو العرق، بل أطرح تساؤلات لمن كان له عقل.
أين كان الإسلام والحق عندما اضطهد؟
إبراهيم قادري… بقي مؤمنًا في هذه الصحراء التي أكلت الأخضر واليابس. كان قائدًا، حكيمًا، الأخ الكبير والإمام والشيخ، الملاذ الآمن بعد الله، حيث لا أمان. كان بمثابة موسى لبني إسرائيل، كما وصفه حكيم قبل رحلة الموت أو طريق الخلاص.
حكيم، الشاب الذي لم يختبر الحياة بعد، تعلم من تجربته ثمناً باهظًا، روحه. كان يحسب السراب ماءً، ويرى في الوهم ناطحات سحاب. تلهف للوصول إلى بر الأمان، لكنه سقط ضحية عجلة لم تستمع لنصائح قادري.
“نجيب، يلا…!” هكذا صاح قادري عليه، يحثه على مواصلة النضال من أجل الحياة.
لم يجد نجيب بديلاً سوى اتباعه. ففي لحظات معينة من حياتك، يضع الله في طريقك أناسًا ينسون أنفسهم من أجلك ولا ينتظرون منك شيئًا. استمر نجيب في المقاومة حتى جاءهم برهان من ربهم، فقد ظهر حيوان لا يعيش إلا حيث الماء. انتفض قادري بروحه التي تعشق التعاون، ونادى نجيبًا قائلاً: “تعال، هناك ماء!”.
لقد أعادت هذه الكلمة الأمل إلى نجيب، الذي كاد يفقده. وجدوا واحة وسط الصحراء القاحلة، وركض نجيب إليها بتلهف. لكن لولا فضل الله ثم فطنة قادري، لهلك نجيب كما هلك حكيم من قبله. فأعطاه الماء قطرات قليلة كي لا يختنق من شدة العطش.
قادري، الرجل الذي يشبه النجاشي في حنانه وحكمته، خرج من الواحة ليأخذ قسطًا من الراحة. وبينما كنّا نتوقع أن يملأ علبة العصير الزجاجية بالماء، فاجأنا بجعلها آلة للعزف.
فالمناضل يحتاج أحيانًا للحظة صفاء، يأخذ فيها نفسًا عميقًا ليستعيد قوته ويواصل طريقه.
“نجيب، يلا!” كررها كصيحة حرب. رأى أثر عجلات سيارة فاتخذه دليلًا للخلاص، لكن الريح عصفت بمسارهم ومحت معه أحلامهم.
رغم ذلك، لم يتمكن اليأس من النيل من قلبيهما.
بعد غفوة قصيرة، استيقظ نجيب ليجد أن قادري قد رحل، تاركًا خلفه علبة الأمل.
نجيب، الآن وحيد في العالم، يقاوم صحراء أصبحت هي الحياة حيث لا حياة. كل ذرة رمل فيها تسوّق للموت.
ذلك الصياد الذي عاش في قريته المتاخمة للنهر، حيث الأمطار تُمطر السعادة، حيث الأحبة: أمه وحبيبته الحامل “سينو”، ظل يتساءل: لماذا تركت ذلك العيش؟ أليس هذا من سخريات القدر؟
ربما هذا جزاء خيانتي للطبيعة… من يدري؟
لكن صوت قادري لا يزال يتردد في ذهنه: “يلا، نجيب”.
واستمر في السير حتى وجد أمامه السواد، سواد الأسفلت ورائحته التي تتبخر بفعل حرارة الشمس الحارقة. فجأة، سمع صوت شاحنة فانتفض، يصيح طالبًا النجدة. لكن السائق اعتبره مجنونًا، ولم يبالِ بصيحات استغاثته.
رغم حالته المزرية التي كانت كافية ليثير الفضول، لم يتحرك السائق. طبيعة البشر القاسية قد تجعلك تكفر بالإنسانية، وتتساءل: من هو الوحش الحقيقي؟ الإنسان أم الحيوان؟
ولكن بينما كان نجيب مذهولًا أمام هذه القسوة، أنقذ الموقف رجل طيب لم يأبه بوسخ نجيب ولا مظهره. رأى الإنسان الذي في داخله.
وكما يقول المثل الولوفي: “الإنسانية هي دواء الإنسان”.
أعاد هذا الرجل الطيب الإيمان بنجيب، وذكّره أن الخير لا يزال موجودًا، وإن كان بحجم حبة خردل. فلولا تلك الحبة، لمات الأمل.
وصل نجيب أخيرًا إلى أهله، الذين عانقوه وغسلوه وطيبوه، وأعادوه إلى البشر بعد أن اعتاد حياة الحظائر.
ندرك هنا أن لا أحد يهتم بك مثل أهلك.
سينو … اتصلوا بها، وبمجرد سماع صوته تنفست الصعداء، وتبخرت كل المخاوف التي كانت تجتاحها. لم يستطع نجيب الرد بكلمات متماسكة؛ عواطف اللقاء كانت جارفة، كأنها شلال لم يجد بعد مساره الصحيح. سنوات الضياع والبحث والانتظار تلاحقت كلها في لحظة واحدة، أغمض عينيه وكأنما الزمن قد توقف، فكل ما بقي في ذهنه هو صورة واحدة: وجهها الذي طالما أضاء عتمته.
“نجيب…؟” كان صوتها مشوبًا بالبكاء، وطفلهما يبكي بصوت خافت في الخلفية.
أحس نجيب بدفء لا يعرفه إلا الأحياء بعد موت محقق، أو الذين ذاقوا مرارة الفقد ليعودوا مرة أخرى. كان كل حرف يخرج منها يشبه بلسماً يشفي جروحه العميقة. لم يكن يعرف ما يقول، فقط اكتفى بالصمت، لأن الصمت في تلك اللحظة كان أبلغ من كل الكلام.
وفي تلك الأثناء، كان عقله قد عاد إلى طريق الحياة. العالم حوله بدأ يتشكل من جديد: الصحراء التي كادت تبتلعه، الصراخ واليأس، اختلاط الماضي بالحاضر… كل شيء بدا وكأنه كان حلماً. وجد نفسه يمسك بعلبة العصير الفارغة التي تركها قادري بين يديه، كانت العلبة البسيطة رمزًا للأمل، رمزًا للنجاة التي لم يتوقعها أبدًا. وبينما كان ينظر إليها، استعاد آخر كلمات قادري: “الأمل يا نجيب هو ما يبقينا أحياء.”.
بقلم/ الكجوري