
في هاوية المعاناة
علي انجاي
طالب سنغالي في المغرب
تحت أديم السماء المغطاة بالغيوم، شوهد طفلٌ ناعم العود في التاسع من عمره جالس تحت ظل شجرة (نِيمْ) يتفيأ من جناتها، وفي قبضته وعاءٌ صغير مثقوب من كل جهة حافل بقطعات من سكر ممزوجة بالأرز والقمح…
كان يرسم فوق التراب صورة رجل ثري حسن الهيئة، جميل المظهر، قاعدا بين أفراد عائلته، فكأنّ في نفسه وحي مستقبل أو همّ مستطير يقض مضجعه. وظلّ مستغرقا في تصوراته وشروده التي كان يرسمها على ذاكرته كما يرسم المصوّر منظرا خلابا من مناظر الطبيعة على لوحته.
وبينما هو على شروده استرخى قليلا فقليلا حتى نام نوما عميقا رغم ملابسه الرزيّة، ونعاله الباليّة المعتادة، لكن ما لبث هنيهة حتى أفاق واقفا وقفة الحائر الجائع كمن رأى كابوسا مخيفا في منامه.
وفجأة نزل عنده رجل طويل القامة شديد البأس ومعه سيارة من طراز فريد وفي يده سيجارة، فشعر الطفل برعدة وخوف ، وقفق قلبه خفقانا شديدا .
فقال له الرجل: ماذا تفعل هنا ونحن في الحجر المنزلي ؟
فلم يجب عنه الطفل لشدة خوفه، لكن ذلك لم يمنع الرجل أن يأخذه عنوا إلى مركزه المدعوّ بمركز التوجيه والإرشاد للمتشردين، مكث هنالك ثلاث ليال حالكة، وفي غرفة مليئة بالبعوضة والحشرات. وفي الصباح استدعي معلمه القرآني ، قبل اطلاق سراحه.
بكّر الشيخ إلى المركز وكان ذا هيبة قليل الكلام رقيق الصوت، وقد اشتعل رأسه شيبا، وفي يده سبحة ، سأله صاحب المركز : لم تركتَ طالبك في الشوارع تلتقط من خشاش الأرض ؟
فلم يجبه الشيخ بل استقر في مكانه ساكنا وكأنه لم يسمع السؤال، لكنه بعد مدة من إلحاح السائل، أجاب بجملة واحدة فقال :دوام الحال من المحال .
لم يطل السائل الحديث معه بل حذره تحذيرا مبرحا إذا عادت الكرة. فرجع الشيخ مع طالبه ( الطفل ) إلى كوخه، وفؤاده فارغا لتبدي به لولا إخلاصه لخدمة كتاب الله العزيز.
ومكث الطفل يقرأ القرآن بالغدو والآصال، وفي قرية أنهكتها الظلمة والجفاف، فكان تَسَوُّله في كل ظهيرة بين فينة وأخرى وتحت جو شموس.
وهكذا ثابر حتى أتم كتابة الله خطا وحفظا، فسافر إلى العاصمة والتحق هنالك مدرسة أهلية، لكن المتاعب لم تتركه على حال سبيله، فكان يمشي مسافة كيلومترات لبلوغ مدرسته ، وأما دفع الرسوم الشهرية فيحتاج إلى عمل شاق في نهاية كل أسبوع. وعلى هذا النحو تداعى عليه المتاعب من كل جانب، إلى أن حصل بكالوريا بتفوق كبير .
وبعد عشرين سنة مضت من تلك الأحداث عاد ذاك الطفل من جديد – ونهكة الشاب بدى في محياه -إلى تلك القرية التي كان يدرس فيها بعد أن حفظ القرآن ثم سافر إلى الخارج ليكمل داسته، وبعد أن حصل على الشهادات في الدراسات العليا في الخارج وعاد إلى البلاد، ثم عيّن أستاذا جامعيا وعضوا في وزارة التعليم.
ها هو اليوم يزور ذلك الكُتّاب الذي كان يدرس فيه….
ها هو اليوم يعود إلى تلك الشجرة التي كان يرسم تحتها ذلك المستقبل الخيالي….
دخل إلى القرية فاستقبله أهل القرية بفرح شديد، ثم زار الكُتّاب فوجد فيه شيخه الذي كان يدرسه… وجده كهلا عجوزا ألقته الشيخوخة على الفراش لا يقدر على شيء لكن لم يفطم لسانه عن ترتيل كتاب الله، وفي ذلك الحين بدأت قطرات الدموع تذرف على حديه وتتساقط ببطء …مشهد أبكى الجميع.
وبعد هذا المشهد المثير خرج ليتجول في الشوارع ويتذكر الأيام المريرة وأثناء سيره مرّ بالمركز الذي احتفظه فيه ذلك الرجل البائس المخيف حين وجده تحت ظل تلك الشجرة يرسم مستقبله الخيالي، فدخل إليه وفجأة وجد ذلك الرجل هناك صاحب السيجارة، ذلك الرجل الذي أخذه إلى المركز فوجده قد لعبت به الحياة وطرحته متاعب العمر إلى فقر محدق، ومركزه ظل مسلوب المستقبل والمصير فقال له الشاب المقاوِم:
هل تذكرني يا رجل ؟
فقال له: لا
فقال له: أتذكر ذاك الطفل الطريح في ظل تلك الشجرة (نِيم)، يوم سلبتَ حريته، وأهنتَ شيخه في هذا المكان العبوس، يوم اعتبرته طفلا بحلم غامض فجعلتَه سخرية بلا مدد ولا عون .
فقال: نعم، ونبرة صوته تتوسل إليه بطلب السماحة ومد يد المساعدة .
فقال له الشاب: أبشر ! أتيت إليك معينا لا مهينًا ، وسأتحفك بما تحتاجه لكي أبرز لك أن ” الإهمال والمعاناة لا يَخْلُقان دوما سوء الحُظوظ” …