
حتمية اقتحام العقبة!!
د.عمران عبد العزيز
المتتبع لديناميكية التطور البشري عبر العصور يلحظ مسايرة الشرائع السماوية لهذه الحركية بما تقتضيه كل مرحلة، بناءاًعلى ما سبقها من تراكمات والتي تميزت بقاعدة التخفيف الممنهج في الأحكام ،حيث أن شريعة حمو رابي تظمنت أكثر من ثلاثين مسألة عقوبتها الإعدام، ثم جاءت بعد ذلك شريعة موسى لتتقلص إلى ما دون العشرين ,ثم خ ِتمت بشريعة محمد (ص) بحكم واحد في قضية قتل النفس ( النفس بالنفس ) ،كما أنها تركت باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه تحريراً للعقل الإنساني.
والمتأمل في واقعنا المعاصر يجده مليئاً بالمتناقضات في شتى المجالات اليومية، بسبب الجمود الفكري والذي ورثناه تاريخيا بعد أن تمكن أصحاب النقل من القضاء النهائي على أصحاب العقل ( سلسلة الحركة العلمية في العالم الاسلامي لأحمد أمين ).
لقد تغير العالم من حولنا بسرعة فائقة بفضل التكنولوجيا الحديثة بناءاً على فلسفة متجددة ونتيجة للخيال العلمي الواسع ،فعلى سبيل المثال لا الحصر تستوقفنا في هذا الصدد عبقرية الأديب الفرنسي جيل فارن الذي استطاع بخياله الواسع ان يتنبأ صعود الأنسان الى القمر بتصور فائق الدقة قبل قرن من الزمن ، وبذلك أضحى كلما يتخيله العقل المتحرر يجسده عل أرض الواقع ، وبناءاً على تلك الثورة العلمية المتعددة تباينت الامم حوالينا برأسمالها البشري واستطاعت أن تعوض فارق التطور التاريخي بينها وبين الأمم العظمى في زمن وجيز.
في ظل هذا المشهد المتسارع وقف العالم الإسلامي بما يمتلكه من مقومات مادية ومعنوية على هامش الأحداث بسبب استعلاءه المتوارث وركوده الناتج عن إعتزازه المفرط بماضيه التليد ، جاعلاً منه سجنا محكماً حال بينه وبين الشعوب المتقدمة شرقاً وغرباً، والتى تمكنت من تفجير ثورة المعرفة الصناعية والمسماة بثورة الصناعة الرابعة في مجال المعلومات و الاتصالات ، وبذلك يكونون قد توصلوا إلى محِصلة الإبداع والاختراع ، بعدما كانوا في مرحلة البحث والتطور.
هذه المرحلة الأخيرة والتي لم نتمكن من الوصول إليها بتركيبة مدارسنا وجامعاتنا التي تخرج سنويا آلاف الطلبة بمستويات متدنية علمياً وثقافياً ،بعيدا كل البعد عن صناعة المعرفة في مختلف المجالات الأدبية والعلمية .
قلب العالم اليوم هو في كاليفورنيا منذ منتصف القرآن الماضي باكتشاف وتطوير تكنولوجيا الإعلام الآلي والاتصال ، بعدما كان مستقرا طويلا بالأندلس بعبقرية ابن رشد وما شاكلها ، إلى سقوط غرناطة سنة ١٤٩٢ ،ثم انطلق من بعد ذلك من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي بدءاً من هولندا بفضل صناعة السفن الكبيرة وحركية التجارة العالمية، ميولا إلى المملكة المتحدة بتطوير صناعة النسيج، ووصولاً إلى بوستن مع بداية صناعة السيارات، ثم مرو ًرا بنيويورك باكتشاف الكهرباء وما نتج عنها من ثورة صناعية كبرى ، لعبت دورا محوريا في تحرير المرأة بالانتشار الواسع والمتعدد للأجهزة الكهرومنزلية…وأما في المستقبل القريب فقلب العالم يتدحرج ليستقر في الضفة الاخرى من المحيط عند العملاق النائم وما جاوره ، هذه الامة الصينية العظيمة التي عرفت كيف تمازج بين الأصالة والحداثة بطريقة أبهرت العالم ،فاستطاعت في عقدين من الزمن أن تخرج من دائرة التخلف الي ريادة الأمم في صمت محكم ،بعيدةً على أعين الناس …وجائحة كورونا المستجدة خير دليل على ذلك حيث أن الاقتصاد الصيني بات الوحيد في العالم الذي تمكن من تسجيل نمو إيجابي في الناتج المحلي خلال هذه الفترة رغم أنه بلد المنشأ .
عالمنا العربي حتى يومنا هذا، بعيدا كل البعد عن مسايرة هذه القفزة التكنولوجيا المتعددة، لأنه أهمل الاستثمار الحقيقي في مجال المعرفة ، وانحصرت عقولنا بالاكتفاء في الاستثمار البدائي المحلي من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها .
نحن بحاجة ماسة لتطوير نظامنا التعليمي لتخريج مخترعين ومبدعين ، يخلقون الثروة و يوفرون مناصب عمل في ميادين متعددة ومتجددة ،وليس مجرد باحثين عن فرص العمل ،خاصة مع الانتشار الواسع لشبكة الانترنت والتي يسرت بدورها الانتقال من التعليم الكلاسيكي الى التعلم ، بحيث يقوم الطالب بتعليم وتثقيف نفسه بنفسه ، متجاوزاً أستاذه بلا حدود ولا قيود ، وفي هذا الصدد استشهد بذلك التلميذ صاحب التسع سنوات والذي تمكن من الوصول الي كلية الطب بشيكاغو بعد تقدمه العلمي الفائق مخترقاً أطوراً متعددة بين زملائه.
حركية الاستنهاض لا يمكنها أن تصبح واقعاً ملموساً مالم نغير ما بأنفسنا بعيدا عن نظرية المؤامرة المحيطة نتيجة للفلسفة المتحجرة ،ومصداقاً لقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ،إذًا فلتكن لنا الشجاعة الكافية للتنصل من الاغلال التاريخية بعبقرية متجددة، بداً بالتمعن والتدبر في آيات التنزيل الحكيم بأعين القرن الواحد والعشرين.