
الشيخ امباكي بوسو : السيرة والذكرى
فاضل سود امباكي
إن الأمور المتقابلة مستقرة في كل الأمم والجماعات وتتصادم بشكل لا يمكن جمعها في حصير واحدٍ يتسعان لكن الإسلام يختلف عن الشرايع والأنظمة الأخرى في معالجة الأشياء وتسييرها ويتمكن من تهذيب المتقابلات وتكوينها في كيفية تخدم بعضها بعضًا من غير أن يتضاد تضادا شنيعا ،والشيخ امباكي يعد نموذجًا في عملية تفعيل صفات متقابلة ودمجها في نفس الوقت حيث لا يكاد يذهب الواحد منها ملقيًا للأخرى بالتعارض ،ويمكننا أن نجمع تلك الأمور المختلفة في شخصية الشيخ ضمن هذه السطور إلا أنها كثيرة إلى حد يصعب أن تقرأ في منشورة بسيطة نظرا لضيق الوقت وكثرة الشواغل ،وتلكم الأشياء كثيرة كما أشرنا آنفا ومنها :لها عقلية ثورة مفرطة،وله فورة كبيرة داعية إلى النهوض لموجهة الأشياء وتنديد الاعوجاجات إن دعت الظروف إليها ، وإن الثورة لم تكن مطاوعة له دون أن يسبر وتقوم على الروية من قبل ،إنما مهدها تفكير عميق وتأمل طويل في طبائع الأشياء وعواقب الأمور ولب الأسباب،وهذا يظهر جليًا في مواقف متعددة التي نهض فيها سريعا بصفة تنم عن روية عنيفة وملاحظات بعيدة المدى قبل أخذ موقف صارم ،كما فعل مع بعض من أبناء الشيوخ الذين كانوا معاكسين لطبيعة مكانتهم الدينية والتاريخية والاجتماعية بالتدخل في أمور لا ناقة ولا جمل لهم ،فألقى نظره إلى الامور متأملًا وقارئا للموضوع بحدوده المترامية محللًا لما تتعقب عليه من فساد وفوضى عارم قد يعم النسل والحرث ، يهدد الوراثة التي أسسها وأشادها الجد الكبير ويهمل كيانها الراسخ ،ثم نهض نهضة حازمة منددا للتغيرات الطارئة بلغة جريئة ترى منها الغيرة على التراث والدين ، والبعد كل البعد عن النظرية النقدية الهدمية ، التي تغلب على كثير ممن الذين يدعون بالنقد البناء وتطهير المقدسات من الدواخل والغرائب .
قد يصعب أن يجتمع هذا الخلق الشامل الشدة وسرعة التصرف مع صفة الحلم ، لكن الشيخ نجح في هذا ،وعليه قد يشهر منه أنه كان متسما بصرامة كل الصرامة وشدة كل الشدة ،كما نراها ونسمع من خلال مواقف كثيرة مثل تشديده على أبناء الشيوخ في التربية إلى حد لا يخيل بل شدة كانت أكثر عليهم من أبناء الاتباع لما كان يعرف من لهؤلاء من حمل مسؤوليات جسام في الغد وإن تعمدوا على الرفاهية والتنعم في الطفل سؤثر عليهم بلا شك في الكبر ،وشواهد اليوم في ذلك لا يحتاج إلى التأمل ،مع ذلك كان يؤمن التعليم بالمساواة على الناس دون تفريق بين هؤلاء وهولاء ،فإن هذه التربية بالشدة لم يكن الغرض منه مجرد التشديد أو المضايقة الصادرة عن طبع الثورة الكامنة في شخصيته ،إنما كان يرمي لغاية مهمة تضاد عنها وهي الحلم المتقابل مع هذه الطبيعة المرافقة مع الشدة ، فإن الحلم من شيم الشيخ امباكي غير المشهورة عند البعض ،بل كان يربى أتباعه عليه كما هي صفة من الصفات التي تكون مطلوبة في مواقف متنوعة بنسبة لزعيم يتزعم قومًا وبهذا الخصوص يقول الشاعر المريدي والمؤرخ الكبير الشيخ”موسى كه ” في وصف خريجي مدرسته العامرة وصفاتهم الكبيرة بقصيدة نسجت باللهجة الولفية
(أن كل من تربى على يديه صار مستقيما استقامة خيوط الشل ومتواضعا خضوع الجلد وحالمًا حلم خروف ) لا داعي للإطناب في تحليل البيت من التشبيه ،فإننا نحتاج إلى العجز الآخير فقط في قوله كحلم الخرفان ،فإن من تخرجوا في يديه وتخلقوا بأخلاقه الحسنة يصيرون في مستوى الحلم عالين جدا ،ومن هنا يعرف أن الثورة في الشدة كانت تهدف لنتيجة متضادة متمثلة في الحلم الظاهر في هؤلاء الذين تربوا تحت كنفه المنيع ،وعلى هذه القراءة القليلة يدرك أن الشيخ امباكي لم يكن متسما بجميع الأوصاف المتباينة في شكل سلبي لكنه جمع كل هذه الصفات وحولها إلى أرضية صالحة للخدمة والتكوين كي يبني أناسًا يحسمون تعاليم الإسلام والتربية المريدية على أرض الواقع ، كما اشرنا سابقًا أن هناك وفرة من أخلاقيات نفسية تكمن في شخصيته مختلفةً حيث يصعب توفيقها إلا أنه نجح في ذلك حيث يخدم بعضه بعضًا من غير أن تكون بينها علاقة المصادمة والتنافر .
وتفاديا للإسهاب الممل نكتفي بهذا التحليل القليل إلى أن يستيقظ القلم مرة آخرى تبركا بيومه المنقعد في حيه المبارك المواقف ل١٦ ،كما أن الأحداث الراهنة لا يمكننا التركيز في غيرها ،ولهذا نكتفي بهذه الكلمات القصيرة إلى مناسبة أخرى .