السنغال بين حلم الإصلاح وواقع الدولة العميقة

عثمان سيك

حين قال جمال عبد الناصر إن “أي بناء يمكن أن يتهدم بالانفجار في لحظة واحدة، ولكن إعادة البناء بعد ذلك لا يمكن إتمامها في لحظة واحدة”، لم يكن يشير إلى مبانٍ إسمنتية أو مؤسسات مادية فقط، بل كان يخاطب عمق الفكرة السياسية للدولة الحديثة، ومأساة التراجع المفاجئ بعد عقود من الجهد.
وهذه العبارة تلخص اليوم مشهداً نعيشه بمرارة في وطننا السنغالي، حيث نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام تركة ثقيلة من التبذير والفساد، وانهيار القيم المؤسسية، بعد أكثر من خمسين عاماً من الاستقلال، وتحديداً منذ سنة 1960م، التي دشنت بداية جمهورية، لكنها للأسف لم تتجه دوماً في اتجاه طموحات الشعب وآماله في العدالة والكرامة والتنمية.
-من الاستقلال إلى الاستغلال:

لقد مرّ بناء الدولة السنغالية بمراحل متباينة، تفاوت فيها منسوب الجدية والشفافية، وافتقرت كثير من تلك المراحل إلى رؤية تنموية متكاملة. وبدل أن يكون المال العام أداة لإحداث نقلة نوعية في البنية التحتية والتعليم والصحة، صار في كثير من الأحيان وسيلة للتكريس الفئوي والترضيات السياسية.
من الصعب حقاً تقدير نسبة التبذير والبذخ في استخدام الممتلكات العامة خلال هذه العقود، لكن الأكيد أن هذا السلوك المزمن قد نخر بنية الدولة الاقتصادية، وأضعف ثقة المواطن في المؤسسات، وأدخل البلاد في دوامة من المديونية والتبعية الاقتصادية.
ـ بناء الدولة ليس لحظة… بل مسار:

حين تهدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتتفكك المؤسسات، وتُفرغ القوانين من محتواها، فإن البناء لا يمكن أن يكون عملاً لحظياً. بل إن إعادة ترميم الدولة، اقتصاداً وسياسة وثقافة، تحتاج إلى:

  • رؤية استراتيجية تنطلق من تشخيص دقيق للخلل.
  • صبر طويل في تنفيذ المشاريع الكبرى وعدم اللهاث وراء نتائج سريعة.
  • عمل جماعي تتكاتف فيه كل فئات المجتمع: النخبة السياسية، الفاعلون الاقتصاديون، والمثقفون الأكاديميون والمجتمع المدني.
    و لكن فوق كل ذلك، يتطلب الأمر جرأة سياسية حقيقية، تُخرج الإصلاح من خانة الوعود إلى خانة التنفيذ على أرض الواقع .
    الأقوال لا تكفي… والفعل هو المعيار:

إن أي خطاب أو بيان لا يُترجم إلى واقع ملموس لا يُحدث فرقاً، بل يُستهلك ثم يُنسى، وهذا واقع عشناه من عبد جوف مرورا بعبد الله واد وصولا إلى ماكي سال. فلا قيمة لأية أقوال إذا لم تكن كلماتها مقياساً حقيقياً للقدرة الفعلية.
وهذا يفرض اليوم السير نحو تحقيق الأهداف التي من أجلها انتخب الشعب حكومة جديدة، وتحويل الأقوال إلى أفعال وسياسات واقعية.
فالأمر لا يتعلق بإصدار دستور لفظي جميل، فمثل هذا لا يغير نظاماً قديماً له أعمدة راسخة في كل زاوية، وإنما التغيير الحقيقي هو اتخاذ قرارات جريئة والمضي في تنفيذها على أرض الواقع.
ذلك أن القول وحده لا يكفي، فـوحده الفعل هو ما يفصل بين الشعارات والواقع، وبين الأمل والوهم.
إن الإصلاح يتطلب شجاعة واضحة لا مجرد شعارات جوهرية، حيث إن الخطاب الإصلاحي وحده لا يكفي. ما يُقنع الناس حقاً هو التطبيق الميداني، والقدرة على تفكيك البُنى المصلحية التي استنزفت الدولة لعقود. حيث إن مواجهة الدولة العميقة لا تُدار بالكلمات الرنانة، بل تحتاج إلى:

  • قرارات شجاعة ضد الفساد.
  • إصلاح جذري للإدارة والمؤسسات.
  • إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والشعب.

وأخيرا يمكنني أن أقول إن السنغال اليوم أمام مفترق طرق حاسم. لقد مرّت لحظة الانفجار، بكل ما حملته من خيبات وأزمات. والآن حان وقت البناء، البناء الصبور، القائم على التضحيات لا على المزايدات، وعلى الرؤية الواضحة لا على الارتجال.
إن الشعوب لا تنهض إلا إذا امتلكت إرادة التغيير، وآمنت بأن الإصلاح ليس طريقاً مفروشاً بالورود، بل هو مسار شاق، يحتاج إلى وضوح في الرؤية، وصدق في الإرادة، وشجاعة في التنفيذ.

زر الذهاب إلى الأعلى