Articles

الأثر الدعوي للحج: تأملات في سلوك السنغاليين العائدين من الحج ..

د.نجوغو امباكي صمب

لاشك أن حج بيت الله الحرام يعد من أعظم شعائر الإسلام ، وأحد أركانه العظام ، وللحج خصائص ومميزات لا تجتمع في غيرها من سائر العبادات ، ومنها قصد بيت الله الحرام بالطواف ، والسعي بالصفا والمروة ، والمبيت بمنى ، والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار …وكل واحدة من هذه الشعائر لها مقاصد شرعية و آثار إيمانية جليلة على الحاج المتحقق بها أو ببعضها ، وهذه المقاصد والآثار تعد من المنافع التي يشهدها الحجاج ، قال الله تعالى { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } 1 .

ولذلك يعتبر الحج فرصة عظيمة للدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونشر العلم وبث الأخلاق الكريمة بين الحجاج ، فالحج سياحة إيمانية ، ومدرسة متنقلة ، ومختبر لخبايا النفس و الضمير ، ويشهد الحج في كل موسم ثلة من العلماء والدعاة، يدعون إلى الله ، ويعلمون الحجاج أمور دينهم ويرشدونهم.

والموفقون من المسلمين لأداء شعيرة الحج في كل زمان ومكان ، يعودون إلى ديارهم بقلوب وأرواح وسلوك غير التي ذهبوا بها ، وهم كأولئك المرضى الذين يدخلون إلى المصحات وفي أجسامهم أنواع مختلفة من الأدواء المهلكة والقاتلة ، وبعد أن يقضوا فيها ما قدر لهم من الأوقات ، لإجراء العمليات وتناول العلاج ، يخرجون من تلك المصحات وقد برأت جسومهم وذهبت همومهم ، ذلك مثلهم في التطهر من الذنوب والآثام ، ومثلهم في الرقي إلى مدارج السالكين كتجار صفقوا في مواسم الأسواق بأفضل السلع والبضائع ، فربحوا بها أموالا طائلة بأضعاف مضاعفة .

وفيما يلي رصد لأهم وأبرز الآثار الدعوية الملحوظة في العائدين من الحج من بني قومي السنغاليين، وهي في جملتها نتاج معايشة وصحبة لكثير منهم في الحج في الحملات وغيرها ، وتأمل ونظر ومقارنة في سلوكياتهم قبل وبعد الحج ، وفي مواسم مختلفة ، والله المستعان.

زيادة في الإيمان .

وهي أعظم أثر دعوي يجنيه الحاج من هذا السفر المبارك ، حيث يرجع وقد ازداد إيمانا بوحدانية الله تعالى ، وبعظمته وكبريائه ، وذلك بما شاهده من مظاهر التوحيد وعلامات العظمة والكبرياء لله الواحد الأحد ، فقد امتلأ قلبه بتعظيم الله ومحبته حين شاهد الكعبة المشرفة ، وكلما طاف بها ، أو لمس ركنا من أركانها أو قبل الحجر الأسود ، تجلى أمامه معنى عظيم من معاني الإيمان ، وانساب إلى قلبه ضوء لطيف من اليقين بربه ، تملأ أذنه كلمة التوحيد ، وصيغ التلبية ، ودعوات واستغاثات تهتف بها الجموع الطاهرة ، متجهة ومتضرعة بها إلى الله الواحد القهار ، وقد تعلم بين الجبلين والعلمين ( الصفا والمروة ) حين يذهب وحين يئوب ، أن الحياة ذهاب وأن الموت إياب ، وما بينهما رسالة تؤدى على منهاج رب الأرباب ومالك الأرض والسماء ، وحين يتجه إلى منى يخرج من أسر المكان ، ومن حدود الأرض ، ليدرك أن أرض الله واسعة ، والعبادة غير محصورة في مكان واحد فقط ، وداخل حدود من بقاعها لا يتجاوزها ، فيبيت في منى ، ويقف بعرفة ، ويقذف الجمرات ، حتى إذا حان الانصراف تعجل أو تأخر ، ليتعلم أن الحياة كلها ميدان سباق إلى الله ومضمار تنافس إلى الخيرات ، لمن شاء منهم أن يتقدم أو يتأخر .

يرجع الحاج وقد ازداد إيمانه بالله وتعظيمه له ، وقلبه يخفق بمشاعر الإجلال والتعظيم لله تعالى ، يذكر الله في كل أموره ، يهلل ويسبح ، ويدعو للزائرين ويخجل أن يذكر أحدا يشركه مع الله في دعائه ، ويعظ من حوله بما شاهد في الحرمين الشريفين من طهارة وسلامة من كل مظهر من مظاهر الشرك والبدع و الخرافة ، فلا قباب ولا مشاهد على قبور الصحابة والصالحين والعلماء ، كما يتعجب من انصهار المسلمين وقت الحج في بوتقة واحدة وتلونهم بلون واحد هو الإسلام ، و هو اسمهم الذي لا اسم للحجاج غيره ، سماهم به أبوهم إبراهيم من قبل ، وفي هذا ، ليكونوا أمة واحدة ، فلا مذاهب ولا طوائف ولا طرق ولا أحزاب في الحج ، وقد يسأل الحاج إذا رجع إلى بلده إمام مسجده أو الواعظ في حيه سؤال محرجا بعض الشيء : هل يصح إسلام المرء إذا لم ينتم لمذهب أو طريقة أو حزب ؟؟؟

معنى آخر لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم .

درجت على ألسنة عامة الحجاج السنغاليين تسمية الحج بزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول أحدهم حين يودع أهله وأصفيائه : أنوي هذه السنة زيارة رسول الله إن شاء الله ، وهو بلا شك يقصد الحج إلى بيت الله الحرام ، والحج في الحقيقة يختلف عن الزيارة، ويمكن للحاج أن يجمع بين الحج والزيارة في سفر واحد ، و تسمية الحج بالزيارة خطأ يجب على العلماء والدعاة تصحيحه وبيان الفرق بين الحج والزيارة ، ولا شك أن إطلاق زيارة الرسول على الحج ، وأنه شرع من أجل ذلك مظهر من مظاهر الغلو في حب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي في جملة مظاهر كثيرة سيتعلم الحاج مدى مخالفتها للسنة ومجانبتها للشرع في أول زيارة له لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث يجد أمام الروضة الشريفة رجال من أهل الحسبة يبينون للناس الطريقة الشرعية لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحذرونهم من الأخطاء والتجاوزات التي يقع فيها بعض جهلة المسلمين ، فلا تسمح بجدران القبر ، ولا طواف حوله ، ولا استقبال إليه عند الدعاء … أمور غريبة جدا لأول الوهلة ، ومستنكرة عند الصدمة الأولى ، وذلك بالنسبة لبعض الحجاج ، والموفق من الحجاج المتعقل منهم و البصير هو من يستفيد من توجيهات الدعاة وإرشاداتهم فيترك ما كان يأتيه من المخالفات الشرعية ، فيتوب ويستغفر الله ، أما غير الموفق فهو من تذهب به الظنون والأوهام كل مذهب فيفسر كلما يسمع في درس أو موعظة أو خطبة في الحج تفسيرا طائفيا ضيقا .

وهكذا يرجع الحاج السنغالي وقد ذاق طعما آخر وشاهد لونا مختلفا لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، محبة شرعية لا إفراط فيها ولا تفريط ، محبة تدل عليها شواهد الاقتداء وعزائم الاتباع ، و تحوطها من مشاعر الشوق والتعظيم والتوقير ما يتناسب مع مقام النبوة الشريفة والرسالة السامية .

مراجعات شرعية وفكرية .
من آثار الحج العظيمة ونتائجه المباركة ما يحدثه في عقل الحاج من مراجعات فكرية وشرعية وسياسية وغيرها ، فكثير من الحجاج السنغاليين يذهب إلى الحج وفي عقله وفكره كثير من الشبهات الشرعية والتساؤلات الفكرية والسياسية وغيرها ، ولكن ترى منهم عقلاء ، والمتبصرون من هؤلاء يرجعون بتصحيح ومراجعة لما كانت عندهم من تصورات خاطئة ومواقف مسبقة .
فترى من كان يظن أن وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة ، بدعة أحدثها طلبة العلم المخالفين لشيوخ الطرق الصوفية وعلماء المالكية ، وأنها ليست سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ، يجد أن الموضوع مختلف تماما وأن الحجاج يكادون يجمعون إجماعا سكوتيا على وضع أيمانهم على شمائلهم في صلواتهم ، إلا ما ندر منهم ، فيرجع إلى بلده و قلبه مطمئن على أن هذه سنة نبوية ، وليست شعيرة طائفية ولا اختيارا مذهبيا .

وآخر كان يعتقد أن الحرمين معقل من يسمون ب ( ا

لوهابية ) ، الذين لا يجلون النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يحبون الأولياء والصالحين ، وإذا ذهب إلى الحج فسوف يسمع منهم السب والشتم والتكفير و التبديع للمخالفين ، وإذا وصل إلى مكة والمدينة لم يطرق سمعه إلا كلام الله وكلام رسوله ، وآثار أهل العلم والصلاح ، ولا تكاد تسمع ذكرا لمحمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ولا دعوة إلى مذهب له أو رأي ، ولا ترى جموعا متجهة إلى قبره أو قبور أولاده أو ذريته ، يلتمسون البركة منهم أبدا .

فيرجع الحاج السنغالي حين يرجع وهو يدرك تماما أن أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الجهلة والمتعصبين هم الذين رموه هو وأتباعه بالتهم ، وشوهوا سمعته فقط ، وإلا فالشيخ مصلح ومجدد كبير كان يدعو إلى الكتاب والسنة واتباع السلف الصالح ، وله اجتهادات مثل جميع العلماء الربانيين لم يلزم بها أحدا .
وسنغالي ثالث لم يكن يؤمن بمفهوم الأمة الإسلامية ، أو يشعر بمعاناة الجسد المسلم ، في فلسطين وأفغانستان والعراق وبورما وغيرها ، حيث بدل ولائه للإسلام والمسلمين بالولاء لكيانات ورايات أخرى من زنجية أفريقية أو فرنكوفونية دولية ، و لما أتى الحج وأتى الناس من كل فج عميق ، علم أنه ينتمي إلى أمة عظيمة تقطن جميع أقطار الأرض ، وتتألف من مختلف أجناس البشرية .

كما نجد من نساء المسلمين من يسر الله لها حج بيت الله الحرام ، و هي لم تكن وقتئذ من أهل الطاعة والالتزام ، تظن أن الحجاب عادة عربية محضة لا صلة له بالتدين ، ولا يفعلها إلا من يطلق عليهم في السنغال ( عباد الرحمن ) ، وإذا وطئت قدماه تلك الأراضي المقدسة رأت نساء مسلمات قانتات محجبات متسترات ، من جميع طبقات المجتمع ، ومن جميع المستويات العلمية ، ومن سائر الجنسيات المختلفة .

فترجع الحاجة إلى السنغال وهي مؤمنة تمام الإيمان بمشروعية ووجوب الحجاب على كل امرأة مسلمة في كل زمان ومكان ، فتترحم على أيام ذهبت من عمرها وهي سافرة متبرجة .

تلك بعض آثار الحج المباركة وهي غيض من فيض ونقطة من بحر ، من المشاهدات والملاحظات و الحكايات ، التي تدل على أن الحج فرصة عظيمة للدعوة إلى الله ورد الناس إلى دينهم ردا جميلا ، نسأل الله تعالى أن يتقبل من الحجاج حجهم ويغفر لهم ذنوبهم ، ولسائر المسلمين والمسلمات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى